كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 11)

وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اشْتَرِطْ لِنَفْسِكَ وَلِرَبِّكَ فَقَالَ: ((أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ)) قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: ((الْجَنَّةُ)) قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُبَايَعَةِ الْأَنْصَارِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْصِيلُهُ فِيمَا يَلِي وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ زُرَارَةَ أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ مُحَمَّدًا؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى أَنْ تُحَارِبُوا الْعَرَبَ وَالْعَجَمَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ كَافَّةً. فَقَالُوا: نَحْنُ حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَ، وَسِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ زُرَارَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ اشْتَرِطْ عَلَيَّ فَقَالَ: ((تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ تَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَتُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ، وَلَا تُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ قَائِلُ الْأَنْصَارِ: نَعَمْ هَذَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: ((الْجَنَّةُ وَالنَّصْرُ)) .
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: انْطَلَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيٍ إِلَى السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لِيَتَكَلَّمْ مُتَكَلِّمُكُمْ وَلَا يُطِيلُ الْخُطْبَةَ فَإِنَّ عَلَيْكُمْ لِلْمُشْرِكِينَ عَيْنًا، وَإِنْ يَعْلَمُوا بِكُمْ يَفْضَحُوكُمْ. فَقَالَ قَائِلُهُمْ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ: يَا مُحَمَّدُ سَلْ لِرَبِّكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ سَلْ لِنَفْسِكَ وَلِأَصْحَابِكَ مَا شِئْتَ، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَابِ عَلَى اللهِ وَعَلَيْكُمْ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: ((أَسْأَلُكُمْ
لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلُكُمْ لِنَفْسِي وَأَصْحَابِي أَنْ تُئْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ))
قَالَ: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ. فَكَانَ الشَّعْبِيُّ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: مَا سَمِعَ الشَّيْبُ وَالشَّبَابُ بِخُطْبَةٍ أَقْصَرَ وَلَا أَبْلَغَ مِنْهَا.
وَمَعْنَى نُزُولِهَا فِي مُبَايَعَةِ الْأَنْصَارِ أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لَا أَنَّهَا خَاصَّةً بِهَا.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ((مَنْ سَلَّ سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ)) وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْبَيْعَةِ. وَفِي لَفْظٍ: اسْعَوْا إِلَى بَيْعَةٍ بَايَعَ اللهُ بِهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) وَلَكِنَّ الْعَجَبَ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ وَهُمْ يَنْكُثُونَ بَيْعَةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُمْ لَا يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ ثَمَنِهَا كَمَا يَطْلُبُونَ سَعَادَةَ الدُّنْيَا وَسِيَادَتَهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَلَا طَرِيقَ لَهَا إِلَّا الْجِهَادُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ،

الصفحة 41