كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 11)

الْمَغْفُورُ لَهُ الْمَرْحُومُ فُلَانٌ، كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ الْآنَ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَتَقَيُّدِهِمْ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْهُمْ بَعْضُ الْمُعَمِّمِينَ وَالْحَامِلِينَ لِدَرَجَةِ الْعَالَمِيَّةِ مِنَ الْأَزْهَرِ.
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: ((أَيْ عَمِّ! قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ)) فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ
عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَأَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ يُعَاوِدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)) فَأَنْزَلَ اللهُ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (28: 56) .
هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ وَأَخْرَجَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ بَرَاءَةَ وَفِي الْجَنَائِزِ أَيْضًا.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ لِلْحَدِيثِ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مِلَّةَ الْأَشْيَاخِ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَازِمٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالطَّبَرِيِّ قَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرَنِي بِهَا قُرَيْشٌ يَقُولُونَ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا جَزَعُ الْمَوْتِ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ. ثُمَّ قَالَ الْحَافِظُ وَرَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ شِبْلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي)) فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لِنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لِعَمِّهِ، فَنَزَلَتْ.
(قَالَ) وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ - وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكْرَارِ النُّزُولِ، وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَيُّوبَ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا إِلَى الْمَقَابِرِ فَأَتْبَعْنَاهُ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَنَاجَاهُ طَوِيلًا ثُمَّ بَكَى فَبَكَيْنَا فَقَالَ: ((إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ قَبْرُ أُمِّي وَإِنِّي اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي الدُّعَاءِ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَأَنْزَلَ عَلَيَّ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ)) ) وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ نَحْوَهُ. وَفِيهِ: نَزَلَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَهُ قَرِيبٌ مِنْ أَلْفِ رَاكِبٍ وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الْآيَةِ. وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى رَسْمَ قَبْرٍ، وَمِنْ طَرِيقِ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ: لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِ أُمِّهِ حَتَّى سَخِنَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ

الصفحة 47