كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

تَسْتَقِرُّ وَتُقِيمُ، وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَكُونُ مُودَعَةً إِلَى حِينٍ، فَهُوَ يَرْزُقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنَ الْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (6: 98) فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فِي (ص 532 و533 ج 7 ط الْهَيْئَةِ) مِنَ التَّفْسِيرِ، وَقَدْ لَخَّصَ الْبَيْضَاوِيُّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ فِي ((مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا)) كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ: أَمَاكِنُهَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ، أَوِ الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ، أَوْ مَسَاكِنُهَا مِنَ الْأَرْضِ حِينَ وُجِدَتْ، وَمَوْدَعُهَا مِنَ الْمَوَادِّ وَالْمَقَارِّ حِينَ كَانَتْ بَعْدُ بِالْقُوَّةِ (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَرْزَاقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا ثَابِتٌ مَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَلَوْحٍ مَحْفُوظٍ، كَتَبَ اللهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كُلَّهَا فَهُوَ عِنْدُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 6: 38 ثُمَّ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَهِيَ الْآيَةُ 59 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) فَرَاجِعْهَا فِي (ص 381 ج 7 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ) .
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مِنْ أَيَّامِ اللهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا شَاءَ مِنَ الْأَطْوَارِ، لَا مِنْ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَتْ
بِهَذَا الْخَلْقِ لَا قَبْلَهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَدَّرَ أَيَّامُ اللهِ بِأَيَّامِهَا كَمَا تَوَهَّمَ الْغَافِلُونَ عَنْ هَذَا، وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ قَوْلِهِ: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (22: 47) وَقَوْلُهُ: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (70: 4) وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ أَنَّ أَيَّامَ غَيْرِ الْأَرْضِ مِنَ الدَّرَارِيِّ التَّابِعَةِ لِنِظَامِ شَمْسِنَا هَذِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي طُولِهَا، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا وَسُرْعَتِهَا فِي دَوَرَانِهَا، وَأَنَّ أَيَّامَ التَّكْوِينِ بِخَلْقِهِ مِنَ الدُّخَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّدِيمِ شُمُوسًا مُضِيئَةً، تَتْبَعُهَا كَوَاكِبُ مُنِيرَةٌ، يُقَدَّرُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ سِنِينِنَا، بَلْ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ أَيْضًا، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ 7: 54 وَيُونُسَ 10: 3، وَذُكِرَ بَعْدَهَا اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرُهُ لِأَمْرِ مُلْكِهِ. وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ بَعْدَهَا فِيهِمَا ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) أَيْ وَكَانَ سَرِيرُ مُلْكِهِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ آيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَرْشِ أَنَّهُ مَرْكَزُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَصْدَرُ التَّدْبِيرِ لَهُ، وَأَنَّ الْمُتَبَادِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ اسْتِعْمَالُهُمُ: اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى مَلَكَ أَوِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْمُلْكِ لَهُ، وَ: ثُلَّ عَرْشُهُ بِمَعْنَى هَلَكَ وَزَالَ مُلْكُهُ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُرُوشَ مُلُوكِ الْبَشَرِ تَخْتَلِفُ مَادَّةً وَشَكْلًا، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَصُنْعِ أَيْدِي الْبَشَرِ، كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النِّظَامُ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ فِي عَالَمِنَا هَذَا، فَعَرْشُ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ الْعَظِيمِ،

الصفحة 15