كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

(إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) (56: 4 - 6) وَيَصِحُّ التَّعْبِيرُ بِالدُّخَانِ عَنِ الْعَنَاصِرِ الْبَسِيطَةِ لِلْبُخَارِ وَالدُّخَّانِ كَالْأَيْدُرُوجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ الْمَاءِ، وَالْأُوكْسُجِينِ وَهُوَ مُوَلِّدُ النَّارِ، وَالِاسْمُ الْعُرْفِيُّ لِجِنْسِ هَذِهِ الْبَسَائِطِ (الْغَازُ) ، وَالسَّدِيمُ فِي اللُّغَةِ: الْغَمَامُ وَالضَّبَابُ وَاخْتَارَهُ عُلَمَاءُ الْفَلَكِ عَلَى الدُّخَانِ وَغَيْرِهِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ.
وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ التَّنْزِيلَ أَرْشَدَنَا فِي كُلِّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا عَرْشَهُ الْعَظِيمَ، إِلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَا جَعَلَهُ مَصْدَرًا لَهُ مِنْ سُنَنِ التَّكْوِينِ وَأَنْوَاعِ التَّدْبِيرِ، وَفِي آيَاتِ التَّكْوِينِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْعَرْشَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ سُنَنِهِ وَنِعَمِهِ وَحِكَمِهِ، وَلَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ وَلَا شُعُوبُ الْحَضَارَةِ وَالْفُنُونِ تَعْرِفُهَا، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَعْرِفْهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ إِلَّا فِي عَصْرِنَا هَذَا.
مِنْ ذَلِكَ أَصْلُ خَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ بِالتَّوَالُدِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ الْمَنْصُوصِ فِي قَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ: (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (22: 5) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (50: 7) وَقَوْلِهِ: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (26: 7) وَقَوْلِهِ: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (31: 10) فَالزَّوْجُ الْبَهِيجُ وَالْكَرِيمُ هُوَ الْمُنْبَتُ الْمُنْتَجُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهَا ذَكَرٌ وَأُنْثَى كَمَا قَالَ: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى) (53: 45 و46) وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ (75: 36 - 39) .
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ آخِرَ مَا انْكَشَفَ لِلْبَشَرِ مِنْ عِلْمِ التَّكْوِينِ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَوِ الْمَنْشَأِ
الْأَوَّلِ لِلْخَلْقِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ وُجُودِ الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَمَا يُسَمَّى بِالْجَمَادِ مِنْ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَهُوَ اتِّحَادُ ذَرَّاتِهِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسَّلْبِيَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا فِي لُغَةِ الْعِلْمِ (بِالْإِلِكْتِرُونِ وَالْبُرُوتُونِ) فَهَلْ لِهَذَا مِنْ أَصْلٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ؟
قُلْتُ: نَعَمْ ; إِنْ هَذَانِ إِلَّا زَوْجَانِ مُنْتَجَانِ، وَالْقُرْآنُ لَمْ يَحْصُرْ سُنَّةَ الزَّوْجِيَّةِ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ بَلْ قَالَ - تَعَالَى -: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (51: 49) وَأَبْلَغُ مِنْ هَذَا فِي الْعُمُومِ، وَأَدْهَشُ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَالْفُهُومِ، وَأَعْظَمُ عِبْرَةً لِلْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْعُلُومِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ) (36: 36) فَهُوَ يَشْمَلُ الْكَهْرَبَائِيَّةَ وَغَيْرَهَا مِمَّا عُلِمَ وَمِمَّا قَدْ يُعْلَمُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَنَّ هَذَا التَّعْبِيرَ، لَا يُعْقَلُ صُدُورُهُ إِلَّا عَنْ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ، وَمَا كَانَ مِثْلُهُ لِيَخْطُرَ بِبَالِ مُحَمَّدٍ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ النَّاشِئِ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَلَا فِي خَلَدِ أَحَدٍ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْعَقْلِيِّينَ وَالطَّبِيعِيِّينَ.
عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ ذِكْرِ النُّورِ وَالنَّارِ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَلْقِ

الصفحة 19