كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَحَقِّيَّةِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَقْطَعُ أَلْسِنَةَ الْمُفْتَرِينَ وَيُبْطِلُ مَعَاذِيرَهُمْ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الصَّارِفَ النَّفْسِيَّ لَهُمْ عَنْهُ وَكَوْنَهُ شَرًّا لَهُمْ لَا خَيْرًا، وَهُوَ أَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ حَيَاتِهِمْ إِلَّا شَهَوَاتُ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا، وَالْإِسْلَامُ يَدْعُوهُمْ إِلَى إِيثَارِ الْآخِرَةِ عَلَى الْأُولَى، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أَيْ مَنْ كَانَ كُلُّ حَظِّهِ مِنْ وُجُودِهِ التَّمَتُّعَ بِلَذَّاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْأُولَى، الَّتِي هِيَ أَدْنَى الْحَيَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ خُلِقَ لَهُمَا وَهِيَ: الطَّعَامُ، وَالشَّرَابُ، وَالْوِقَاعُ، وَزِينَتُهَا مِنَ اللِّبَاسِ، وَالْأَثَاثِ، وَالرِّيَاشِ، وَالْأَوْلَادِ، وَالْأَمْوَالِ، لَا يُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ اسْتِعْدَادًا لِلْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِقَاءِ اللهِ - تَعَالَى - بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِبَاعِثِ الْإِيمَانِ (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أَيْ نُؤَدِّ إِلَيْهِمْ ثَمَرَاتِ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا، وَافِيَةً تَامَّةً بِحَسَبِ سُنَّتِنَا فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي التَّفْسِيرِ مِرَارًا (وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) وَهُمْ لَا يُنْقَصُونَ فِيهَا شَيْئًا مِنْ نَتَائِجِ كَسْبِهِمْ لِأَجْلِ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَرْزَاقِ فِيهَا عَلَى الْأَعْمَالِ السَّبَبِيَّةِ، لَا عَلَى النِّيَّاتِ وَالْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ، وَلَكِنْ لِهِدَايَةِ الدِّينِ تَأْثِيرًا فِيهَا مِنْ نَاحِيَةِ: الْأَمَانَةِ، وَالِاسْتِقَامَةِ، وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ، وَاجْتِنَابِ الْخِيَانَةِ وَالزُّورِ وَالْغِشِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلِأَهْلِهَا الْعَاقِبَةُ الْحَسَنَةُ فِيهَا، وَكَرَّرَ لَفْظَ ((فِيهَا)) لِلتَّأْكِيدِ وَالْإِعْلَامِ بِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَالدُّنْيَا فِي وَفَاءِ كَيْلِ الْجَزَاءِ وَفِي بَخْسِهِ، فَإِنَّهُ فِيهَا مَنُوطٌ بِأَمْرَيْنِ: كَسْبِ الْإِنْسَانِ، وَنِظَامِ الْأَقْدَارِ، وَقَدْ يَتَعَارَضَانِ، وَأَمَّا جَزَاءُ الْآخِرَةِ فَهُوَ بِفِعْلِ اللهِ - تَعَالَى - مُبَاشَرَةً: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (18: 49) .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا دَارُ الْعَذَابِ الْمُسَمَّاةُ بِالنَّارِ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ فِيهَا كَالْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا لِنَعِيمِ الْآخِرَةِ شَيْئًا ; فَإِنَّ الْعَمَلَ لَهَا إِنَّمَا هُوَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي وَالرَّذَائِلِ، وَأَعْمَالُ الْبَرِّ وَالْفَضَائِلِ (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) وَفَسَدَ

الصفحة 41