كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَنْ يَهْتَدِي وَيَهْدِي بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ عَلَى جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ، أَوْ عِنَادٍ وَجُحُودٍ، فَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أَيْ عَلَى الْحُجَّةِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ هَادِيًا مُهْتَدِيًا بِهِ، فَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ; كَالْبُرْهَانِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالنُّصُوصِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، وَالْخَوَارِقِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَالتَّجَارِبِ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَالشَّهَادَاتِ فِي الْقَضَائِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ قَدْ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا تَرَى فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. وَكَانَتْ بَيِّنَاتُهُمْ قِسْمَيْنِ: حُجَجًا عَقْلِيَّةً، وَآيَاتٍ كَوْنِيَّةً، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَقْتَنِعْ بِبَيِّنَةِ الرَّسُولِ أَوْ يُكَابِرُهَا يَقُولُونَ: (مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) (11: 53) وَكَانَ مَنْ جَحَدَ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ بَعْدَ التَّحَدِّي وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ يُهْلَكُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَجِدُ هَذَا وَذَاكَ مُفَصَّلًا فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ:
إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي 6: 57 وَقَوْلِهِ: (قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (7: 105) فَالْأُولَى مَا عَلِمَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّهِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَبِإِظْهَارِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) (6: 83) أَوْ مَا آتَاهُ مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَسْتَخْذِي لَهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَنْقَطِعُ بِهَا مُكَابَرَتُهُمْ.
وَكَانَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطْلِقُ الْبَيِّنَةَ تَارَةً عَلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً عَلَى آيَتِهِ الْكُبْرَى الْجَامِعَةِ لِلْبَرَاهِينِ الْكَثِيرَةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) (6: 57) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ) (6: 155 - 157) فَهَذَا

الصفحة 43