كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

قِصَّةُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ)
تَقَدَّمَ ذِكْرُ خُلَاصَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُخْتَصَرَةً مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) (10: 71) إِلَخْ، وَبَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا نُكْتَةَ هَذَا الْعَطْفِ فِيهَا، وَوَجْهَ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ فَكَانَ مُتَمِّمًا وَشَاهِدًا لَهُ، وَتَقَدَّمَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُخْتَصَرَةً أَيْضًا مَبْدُوءَةً بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (7: 59) وَأَشَرْتُ فِي تَفْسِيرِهِ إِلَى وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَاتِّصَالِ الْكَلَامِ بِمَا جَاءَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَامَّةً. وَقَدْ جَاءَتْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مُفَصَّلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا بِمَا نُبَيِّنُهُ فِيمَا يَلِي فَنَقُولُ:
- (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) قَالَ الْمُعْرِبُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْوَاوَ هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ لِأَنَّ مَعْنَى الْجُمْلَةِ لَا يَشْتَرِكُ مَعَ مَا قَبْلَهُ بِمَا يَصِحُّ جَعْلُهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ. وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ فِي السُّورَةِ، أَكَّدَ بِهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أُصُولِ الدِّينِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَالنُّبُوَّةِ، فَهُوَ يَشْتَرِكُ مَعَهُ فِي جُمْلَتِهِ لَا مَعَ آخِرِ آيَةٍ مِنْهُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ بِعْثَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا بُعِثَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَبَعْثِهِ نَذِيرًا وَبَشِيرًا، وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ; لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ، وَأَنَّ حَالَهُ مَعَهُمْ كَحَالِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - مَعَ أَقْوَامِهِمْ إِجْمَالًا
وَتَفْصِيلًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (سُنَّةَ مِنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (17: 77) فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَى قَوْمِكَ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ أُصُولِهِ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَخْ.

الصفحة 51