كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)
(وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) الِازْدِرَاءُ: افْتِعَالٌ مِنَ الزِّرَايَةِ، يُقَالُ: زَرَى عَلَى فُلَانٍ يَزْرِي زَرِيَّةً وَزِرَايَةً (بِالْكَسْرِ) إِذَا عَابَهُ وَاسْتَهْزَأَ بِهِ، وَأَزْرَى بِهِ إِزْرَاءً تَهَاوَنَ بِهِ، أَيْ: وَلَا أَقُولُ فِي شَأْنِ الَّذِينَ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ نَظَرَ الِاسْتِصْغَارِ وَالِاحْتِقَارِ فَتَزْدَرِيهِمْ أَعْيُنُكُمْ لِفَقْرِهِمْ وَرَثَاثَتِهِمْ: (لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا) كَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ. وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ مَا وَعَدَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهُدَى مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيُرَاجَعُ تَفْسِيرُ مَا حَكَى الله عَنْ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (46: 11) وَغَيْرُ هَذَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُ.
(اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ) مِمَّا آتَاهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ بِإِخْلَاصٍ وَصِدْقِ سَرِيرَةٍ، خِلَافًا لِمَا زَعَمْتُمْ مِنَ اتِّبَاعِي بَادِيَ الرَّأْيِ بِغَيْرِ بَصِيرَةٍ وَلَا عِلْمٍ (إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ إِنِّي إِذَا قُلْتُ ذَلِكَ فِيهِمْ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، إِذْ أَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِي بِالتَّقَوُّلِ عَلَى اللهِ غَيْرَ مَا أَعْلَمُهُ عَنْهُ مِنْ وَعْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَظَالِمًا لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُحْسِنِينَ بِهَضْمِ حَقِّهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: إِنِّي إِذَا قُلْتُ شَيْئًا مِمَّا نَفَيْتُهُ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ، بِأَنِ ادَّعَيْتُ أَنِّي أَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي خَزَائِنِ رِزْقِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، أَوْ أَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَخْ. لَمِنْ زُمْرَةِ الظَّالِمِينَ الرَّاسِخِينَ فِي الظُّلْمِ، لَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعْتَصِمِينَ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لِاجْتِنَابِ مَا ذُكِرَ تَعْرِيضٌ بِالْمُخَاطَبِينَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَا تَمَّتْ حُجَّتُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ وَدَحْضُهُ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالُوا قَوْلَ الْمُعْتَرِفِ بِالْعَجْزِ، الْمُنْتَهِي بِهِ عَجْزُهُ إِلَى حَدِّ الْيَأْسِ:
قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
قَالَ الرَّاغِبُ: الْجِدَالُ: الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُغَالَبَةِ، وَأَصْلُهُ مِنْ جَدَلْتُ الْحَبْلَ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ، وَمِنْهُ الْجَدِيلُ (أَيِ الْحَبْلُ الْمَفْتُولُ) وَجَدَلْتُ الْبِنَاءَ أَحْكَمْتُهُ. وَدِرْعٌ مَجْدُولَةٌ، وَالْأَجْدَلُ الصَّقْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنْيَةِ، وَالْمِجْدَلُ (كَمِنْبَرٍ) الْقَصْرُ الْمُحْكَمُ الْبِنَاءِ، وَمِنْهُ
الصفحة 58
336