كتاب تفسير المنار (اسم الجزء: 12)

مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقِصَّةِ، فَمَا قَالَهُ مُقَاتِلٌ: لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ مِنْ وِجْهَةِ الْأُسْلُوبِ الْخَاصِّ بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى تَعْبِيرِهَا عَنِ الْإِنْكَارِ بِـ ((يَقُولُونَ)) وَعَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِـ ((قُلْ)) الدَّالَّيْنِ عَلَى الْحَالِ، وَأَبْعَدُ عَنْ سِيَاقٍ حُكِيَ كُلُّهُ بِفِعْلِ الْمَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ((قَالُوا: قَالَ)) وَهُوَ سِيَاقُ قِصَّةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا فِي الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدِي وَعَلَيْهِ ابْنُ جَرِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ ضَعِيفٌ وَهُوَ لِجُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أَيْ أَمْ يَقُولُ مُشْرِكُو مَكَّةَ: إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَى
هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ، أَوْ يَقُولُ نُوحٌ: إِنَّهُ افْتَرَى هَذَا الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) أَيْ إِنْ كُنْتُ افْتَرَيْتُهُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَرْضًا فَهُوَ إِجْرَامٌ عَظِيمٌ عَلَيَّ إِثْمُهُ وَعِقَابُهُ مِنْ دُونِكُمْ ; (إِذِ الْإِجْرَامُ: الْفِعْلُ الْقَبِيحُ الضَّارُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهُ الْعِقَابَ، مِنَ الْجُرْمِ الَّذِي هُوَ قَطْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدُوِّ صَلَاحِهِ الَّذِي يَجْعَلُهُ مُنْتَفَعًا بِهِ كَمَا سَبَقَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى) وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ أَنَّ هَذَا إِجْرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَمَا الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى اقْتِرَافِهِ (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) لِأَنَّ حُكْمَ اللهِ الْعَدْلَ أَنْ يَجْزِيَ كُلَّ امْرِئٍ بِعَمَلِهِ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَلَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (2: 286) وَتَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا هُنَا وَهُوَ: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (10: 41) وَقَدْ أُثْبِتَ عَلَيْهِمُ الْإِجْرَامُ هُنَا ; وَمِنْهُ - أَوْ أَشَدُّهُ - تَكْذِيبُهُ وَوَصْفُهُ بِالِافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَهَذَا الْأُسْلُوبُ مِنَ الْجِدَالِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَسْتَخِفُّهُ السَّمْعُ، وَيَقْبَلُهُ الطَّبْعُ.
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)

الصفحة 61