كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 1)

هَذَا إِرْشَادٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى (1) لِلْوَالِدَاتِ: أَنْ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ كَمَالَ الرَّضَاعَةِ، وَهِيَ سَنَتَانِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالرَّضَاعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا (2) قَالَ: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ إِلَّا مَا كَانَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ، فَلَوِ ارْتَضَعَ الْمَوْلُودُ وَعُمْرُهُ فَوْقَهُمَا لَمْ يَحْرُمْ.
قَالَ (3) التِّرْمِذِيُّ: "بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تُحَرِّمُ إِلَّا فِي الصِّغَرِ (4) دُونَ الْحَوْلَيْنِ": حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ، وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ". وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ: أَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تُحَرِّمُ إِلَّا مَا كَانَ دُونَ الْحَوْلَيْنِ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ شَيْئًا. وَفَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ، وَهِيَ امْرَأَةُ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (5) .
قُلْتُ: تَفَرَّدَ التِّرْمِذِيُّ بِرِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَرِجَالُهُ عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إِلَّا مَا كَانَ فِي الثَّدْيِ، أَيْ: فِي مَحَلِّ (6) الرَّضَاعَةِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ وَكِيع وَغُنْدَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: "إن لَهُ مُرْضِعًا (7) فِي الْجَنَّةِ". وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ (8) وَإِنَّمَا قَالَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، ذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْنَهُ إِبْرَاهِيمَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَاتَ وَلَهُ سَنَةٌ وَعَشَرَةُ أَشْهُرٍ، فَقَالَ: "إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنَّةِ" يَعْنِي: تُكْمِلُ رِضَاعَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "لا يُحَرِّمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلَّا مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ"، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يُسْنِدْهُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ غَيْرُ الْهَيْثَمِ بْنِ جَمِيلٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ (9) .
قُلْتُ: وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا (10) (11) . وَرَوَاهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَزَادَ: "وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ"، وَهَذَا أَصَحُّ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: "لا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ، وَلَا يُتْم بَعْدَ احْتِلَامٍ"، وَتَمَامُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لُقْمَانَ: 14] . وَقَالَ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الْأَحْقَافِ: 15] . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الرَّضَاعَةَ لَا تحرم بعد الحولين مروي عن
__________
(1) في جـ: "من الله تبارك وتعالى".
(2) في جـ: "فلهذا".
(3) في جـ: "وقال".
(4) في أ: "في الصغير".
(5) سنن الترمذي برقم (1152) .
(6) في جـ، أ: "في حال".
(7) في أ، و: "إن ابني مات وإن له مرضعا".
(8) المسند (4/300) وصحيح البخاري برقم (1382) .
(9) سنن الدارقطني (4/174) .
(10) في هـ: "مرفوعا" والصواب ما أثبتناه من جـ، أ، و، وهو ما نبه عليه الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله.
(11) الموطأ (2/602) .

الصفحة 633