كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 1)

يَقُولُ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أَنْ تُعَرّضوا بِخِطْبَةِ النِّسَاءِ فِي عِدَّتِهِنَّ مِنْ وَفَاةِ أَزْوَاجِهِنَّ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. قَالَ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ وَجَرِيرٌ وَغَيْرُهُمْ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} قَالَ: التَّعْرِيضُ أَنْ تَقُول: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنِّي أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ أَمْرِهَا وَمِنْ أَمْرِهَا -يُعَرِّضُ لَهَا بِالْقَوْلِ بِالْمَعْرُوفِ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَنِي امْرَأَةً وَنَحْوَ هَذَا. وَلَا يَنْصِبُ للخِطْبة. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنِّي لَا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ غيرَك إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً صَالِحٍةً، وَلَا يَنْصِبُ لَهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا، فَقَالَ: قَالَ لِي طَلْقُ بْنُ غَنَّام، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} هُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي أُرِيدُ التَّزْوِيجَ، وَإِنَّ النِّسَاءَ لَمِنْ حَاجَتِي، وَلَوَدِدْتُ أَنَّهُ تَيَسَّر لِي امْرَأَةٌ صَالِحٍةٌ (1) .
وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبير، وَإِبْرَاهِيمُ النخَعي، وَالشَّعْبِيُّ، والحسنُ، وَقَتَادَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَيَزِيدُ بْنُ قُسَيط، وَمُقَاتِلُ بْنُ حيَّان، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي التَّعْرِيضِ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لَهَا بِالْخِطْبَةِ. وَهَكَذَا حُكْمُ الْمُطْلِقَةِ الْمَبْتُوتَةِ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ لَهَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، حِينَ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَبُو عَمْرو بْنُ حَفْص: آخَرُ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ. فَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَقَالَ لَهَا: "فَإِذَا حَلَلْت فَآذِنِينِي". فَلَمَّا حلَّتْ خَطَبَ عَلَيْهَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ مَوْلَاهُ، فزَوّجها إِيَّاهُ (2) .
فَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ: فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ زَوْجِهَا التَّصْرِيحُ بِخِطْبَتِهَا وَلَا التَّعْرِيضُ لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أَيْ: أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ خطْبَتَهُنّ (3) وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ (4) يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [الْقِصَصِ:69] وَكَقَوْلِهِ: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [المتحنة:1] وَلِهَذَا قَالَ: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أَيْ: فِي أَنْفُسِكُمْ، فَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْكُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قَالَ أَبُو مِجْلَز، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ -جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ -وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَسُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا. وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ العَوفي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5124) .
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1480) .
(3) في جـ، أ، و: "من خطبتهن".
(4) في جـ: "والله" وهو خطأ.

الصفحة 639