كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 1)
وَهَذَا مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ {أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه} عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: وَهُمْ مُتَحَقِّقُونَ مُثَبتون أَنَّ اللَّهَ سَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ، وَنَظِيرُ هَذَا فِي الْمَعْنَى، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفِقِ عَلَى صِحَّتِهِ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا. . . " أَيْ: يُؤْمِنُ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَهُ، وَيَحْتَسِبُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابَهُ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أَيْ: تَصْدِيقًا وَيَقِينًا (2) . وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: أَيْ: يَتَثَبَّتُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ (3) صَدَقَاتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} أَيْ: كَمَثَلِ بُسْتَانٍ بِرَبْوَةٍ. وَهُوَ عِنْدُ الْجُمْهُورِ: الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ الْمُسْتَوِي مِنَ الْأَرْضِ. وَزَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: وَتَجْرِي فِيهِ الْأَنْهَارُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي الرَّبْوَةِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ هُنَّ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ: بِضَمِّ الرَّاءِ، وَبِهَا قَرَأَ عَامَّةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ. وَفَتْحِهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَعْضِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ، وَيُقَالُ: إِنَّهَا لُغَةُ تَمِيمٍ. وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَيُذْكَرُ أَنَّهَا قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَوْلُهُ: {أَصَابَهَا (4) وَابِلٌ} وَهُوَ الْمَطَرُ الشَّدِيدُ، كَمَا تَقَدَّمَ، {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أَيْ: ثَمَرَتَهَا (5) {ضِعْفَيْن} أَيْ: بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْجِنَانِ. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الرَّذَاذ، وَهُوَ اللَّيِّنُ مِنَ الْمَطَرِ. أَيْ: هَذِهِ الْجَنَّةُ بِهَذِهِ الرَّبْوَةِ لَا تَمْحُلُ أَبَدًا؛ لِأَنَّهَا إِنْ لَمْ يَصُبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ كِفَايَتُهَا، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنُ لَا يَبُورُ أَبَدًا، بَلْ يَتَقَبَّلُهُ اللَّهُ وَيُكَثِّرُهُ وَيُنَمِّيهِ، كُلُّ عَامِلٍ بِحَسْبِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أَيْ: لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ شَيْءٌ.
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) }
قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ -هُوَ ابْنُ يُوسُفَ -عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ (6) بْنَ أَبِي مُلَيكة، يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَمِعْتُ أَخَاهُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَير قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَنْ تَرَوْنَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} ؟ قَالُوا: اللَّهُ أَعْلَمُ. فَغَضِبَ عُمَرُ فَقَالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ أَوْ لَا نَعْلَمُ (7) . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ أَخِي، قُلْ وَلَا تُحَقِّرْ نَفْسَكَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ. قَالَ عُمَرُ: أيُّ عملٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِعَمَلٍ. قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ له الشيطان فعمِل بالمعاصي
__________
(1) في جـ، أ، و: "صلى الله عليه وسلم".
(2) في و: "وتيقنا".
(3) في ج: "أي يضعوا".
(4) في جـ، أ: "فأصابها" وهو خطأ.
(5) في جـ، أ، و: "أي ثمرها".
(6) في جـ، أ، و: "عبيد الله".
(7) في جـ: "فقالوا أتعلم أو لا تعلم".
الصفحة 695
739