كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 1)
بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِأَلَّا يتصَدق إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إِلَى آخِرِهَا، فَأَمَرَ بِالصَّدَقَةِ بَعْدَهَا عَلَى كُلِّ مَنْ سَأَلَكَ مِنْ كُلِّ دِينٍ (1) . وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُم} الْآيَةَ [الْمُمْتَحِنَةِ:8] حَدِيثَ أَسْمَاءَ بِنْتِ الصَّدِيقِ فِي ذَلِكَ [إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى] (2) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُم} كَقَوْلِهِ {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِه} [فُصِّلَتْ: 46، الْجَاثِيَةِ: 15] وَنَظَائِرُهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ (3) .
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَفَقَةُ الْمُؤْمِنِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُنْفِقُ الْمُؤْمِنُ -إِذَا أَنْفَقَ -إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: يَعْنِي إِذَا أَعْطَيْتَ لِوَجْهِ اللَّهِ، فَلَا عَلَيْكَ مَا كَانَ عملُه وَهَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ إِذَا تَصَدَّقَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فَقَدْ وَقَعَ أجرُه عَلَى اللَّهِ، وَلَا عَلَيْهِ (4) فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَنْ أَصَابَ: ألِبَرّ أَوْ فَاجِرٍ أَوْ مُسْتَحَقٍّ أَوْ غَيْرِهِ، هُوَ مُثَابٌ عَلَى قَصْدِهِ، ومستَنَدُ هَذَا تَمَامُ الْآيَةِ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} وَالْحَدِيثُ الْمُخَرَّجُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "قال رَجُلٌ: لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدقَ عَلَى زَانِيَةٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدق اللَّيْلَةَ عَلَى غَني! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِيٍّ، لَأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصدق اللَّيْلَةَ عَلَى سَارِقٍ! فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، وَعَلَى غَنِيٍّ، وَعَلَى سَارِقٍ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ؛ وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا، وَلَعَلَّ الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ، وَلَعَلَّ السَّارِقَ أَنْ يَسْتَعِفَّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ" (5) .
وَقَوْلُهُ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يَعْنِي: الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ قَدِ انْقَطَعُوا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَسَكَنُوا الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ لَهُمْ سَبَبٌ يَرُدُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَا يُغْنِيهِمْ (6) وَ {لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض} يَعْنِي: سَفَرًا لِلتَّسَبُّبِ فِي طَلَبِ الْمَعَاشِ. وَالضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ: هُوَ السَّفَرُ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النِّسَاءِ: 101] ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه} الْآيَةَ [الْمُزَّمِّلِ: 20] .
وَقَوْلُهُ: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} أَيِ: الجاهلُ بأمْرهم وَحَالِهِمْ يَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ، مِنْ تَعَفُّفِهِمْ فِي لِبَاسِهِمْ وَحَالِهِمْ وَمَقَالِهِمْ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثُ الْمُتَّفِقُ عَلَى صِحَّتِهِ، عن أبي هريرة قال:
__________
(1) وعزاه السيوطي في الدر المنثور (2/86) لابن مردويه والضياء المقدسي.
(2) زيادة من جـ، أ.
(3) في و: "كثير".
(4) في و: "ولا يمكنه".
(5) صحيح البخاري برقم (1421) وصحيح مسلم برقم (1022) .
(6) في أ: "بأنفسهم".
الصفحة 704
739