كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 1)

وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي الْإِسْرَاءِ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ: أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) مَرَّ لَيْلَتَئِذٍ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَجْوَافٌ مِثْلُ الْبُيُوتِ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلًا.
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الصَّلْتِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ كَالْبُيُوتِ، فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا".
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ حَسَنٍ وَعَفَّانَ، كِلَاهُمَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ (2) . وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ، عَنْ سَمُرَة (3) بْنِ جُنْدُبٍ فِي حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ: "فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ-حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَحْمَرُ مِثْلُ الدَّمِ -وَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ، [مَا يَسْبَحُ] (4) ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ الْحِجَارَةَ عِنْدَهُ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ (5) حَجَرًا" وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَّهُ آكِلُ الرِّبَا (6) .
وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} أَيْ: إِنَّمَا جُوزُوا بِذَلِكَ لِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ، وَلَيْسَ هَذَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلرِّبَا عَلَى الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ (7) بِمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلِ الْبَيْعِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ لَقَالُوا: إِنَّمَا الرِّبَا مِثْلُ الْبَيْعِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أَيْ: هُوَ نَظِيرُهُ، فَلِمَ حَرَّمَ هَذَا وَأُبِيحَ هَذَا؟ وَهَذَا اعْتِرَاضٌ مِنْهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، أَيْ: هَذَا مِثْلُ هَذَا، وَقَدْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا!
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ (8) رَدًّا عَلَيْهِمْ، أَيْ: قَالُوا: مَا قَالُوهُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَفْرِيقِ اللَّهِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا حُكْمًا، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَهُوَ الْعَالَمُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا، وَمَا يَنْفَعُ عِبَادَهُ فَيُبِيحُهُ لَهُمْ، وَمَا يَضُرُّهُمْ فَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا الطِّفْلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ: مَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللَّهِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهَى حَالَ وُصُولِ الشَّرْعِ إِلَيْهِ. فَلَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْمُعَامَلَةِ، لِقَوْلِهِ: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [الْمَائِدَةِ: 95] وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "وَكُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيْ هَاتَيْنِ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ" (9) وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِرَدِّ الزِّيَادَاتِ الْمَأْخُوذَةِ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، بل عفا عما سلف، كما قال
__________
(1) في جـ: "أنه عليه الصلاة والسلام".
(2) سنن ابن ماجة برقم (2273) والمسند (2/353) .
(3) في جـ، أ: "عن سلمة".
(4) زيادة من صحيح البخاري (7047) .
(5) في جـ: "فألقمه".
(6) صحيح البخاري برقم (7047) .
(7) في جـ: "لا يعرفون".
(8) في جـ: "يحتمل أن يكون من كلام الله".
(9) قال الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله، في عمدة التفسير (2/189) : "وهم الحافظ ابن كثير، رحمه الله، فإن هذا لم يكن له يوم فتح مكة، بل كان في حجة الوداع في خطبته صلى الله عليه وسلم بعرفه". قلت: جاء هذا مصرحا في رواية عمرو بن الأحوص قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع يَقُولُ: "أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الجاهلية موضوع. . . " فذكر الحديث، رواه أبو داود في السنن برقم (3334) والترمذي في السنن برقم (3087) .

الصفحة 709