كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

سَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ، وَيُحَاسِبُهُ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَيُعَاقِبُهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ كِتَابَهُ (1)
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ} أَيْ: جَادَلُوكَ فِي التَّوْحِيدِ {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} أَيْ: فَقُلْ أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا نِدَّ [لَهُ] (2) وَلَا وَلَدَ وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} عَلَى دِينِي، يَقُولُ كَمَقَالَتِي، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (3) } [يُوسُفَ: 108] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى طَرِيقَتِهِ وَدِينِهِ، وَالدُّخُولِ فِي شَرْعِهِ وَمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ الْكِتَابِيِّينَ (4) مِنَ الْمِلَّتَيْنِ وَالْأُمِّيِّينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} أَيْ: وَاللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابُهُمْ وَإِلَيْهِ مَرْجِعُهُمْ وَمَآبُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ، وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أَيْ: هُوَ (5) عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَةَ، وَهُوَ الَّذِي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 33] وَمَا ذَاكَ (6) إِلَّا لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا مَنْ أَصْرَحِ الدَّلَالَاتِ عَلَى عُمُومِ بِعْثَتِهِ، صَلوات اللَّهِ وَسَلَامُهُ (7) عَلَيْهِ، إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ ضَرُورَةً، وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي غَيْرِ (8) مَا آيَةٍ وَحَدِيثٍ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الْأَعْرَافِ: 158] وَقَالَ تَعَالَى: {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 1] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِمَّا ثَبَتَ تَوَاتُرُهُ بِالْوَقَائِعِ الْمُتَعَدِّدَةِ، أَنَّهُ بَعَثَ كُتُبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ مُلُوكَ الْآفَاقِ، وَطَوَائِفَ (9) بَنِي آدَمَ مِنْ عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم، امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ هَمَّام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ (10) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (11) .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ" (12) وَقَالَ: "كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُؤَمِّل، حَدَّثَنَا حَمَّاد، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضع لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءه وَيُنَاوِلُهُ نَعْلَيْهِ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِدٌ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا فُلانُ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" فَنَظَرَ إلَى أَبِيهِ، فَسَكَتَ أَبُوهُ، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ، فَقَالَ أبُوهُ: أطِعْ أَبَا الْقَاسِم، فَقَالَ الْغُلامُ:: أشْهَدُ أن
__________
(1) في أ، و: "بكتابه".
(2) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(4) في جـ: "أهل الكتابين".
(5) في أ، و: "وهو".
(6) في أ، و: "وذلك".
(7) في جـ: "الله".
(8) في أ: "وغير".
(9) في و: "من طوئف".
(10) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(11) صحيح مسلم برقم (153) .
(12) في جـ، ر، أ، و: "الأسود والأحمر".

الصفحة 26