كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
يَقُولُ تَعَالَى: {قُلْ} يَا مُحَمَّدُ، مُعَظِّمًا لِرَبِّكَ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، وَشَاكِرًا لَهُ وَمُفَوِّضًا إِلَيْهِ: {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} أَيْ: لَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} أَيْ: أَنْتَ الْمُعْطِي، وَأَنْتَ الْمَانِعُ، وَأَنْتَ الَّذِي مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ وَإِرْشَادٌ إِلَى شُكْرِ نِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَوَّلَ النُّبُوَّةَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْقُرَشِيِّ الْمَكِّيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَرَسُولِ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، الَّذِي جَمَعَ اللَّهُ فِيهِ مَحَاسِنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، وَخَصَّهُ بِخَصَائِصَ لَمْ يُعْطهَا نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ، فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ وَإِطْلَاعِهِ عَلَى الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَكَشْفِهِ عَنْ حَقَائِقِ الْآخِرَةِ وَنَشْرِ أُمَّتِهِ فِي الْآفَاقِ، فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَإِظْهَارِ دِينِهِ وَشَرْعِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَالشَّرَائِعِ، فَصَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، مَا تَعَاقَبَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (1) } أَيْ: أَنْتَ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِكَ، الْفَعَّالُ لِمَا تُرِيدُ، كَمَا رَدَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مَنْ يَتَحَكَّمُ (2) عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ، حَيْثُ قَالَ: {وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزُّخْرُفِ: 31] .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ] (3) } الْآيَةَ [الزُّخْرُفِ: 32] أَيْ: نَحْنُ نَتَصَرَّفُ فِي خَلْقِنَا كَمَا نُرِيدُ، بِلَا مُمَانِعٍ وَلَا مُدَافِعٍ، وَلَنَا الْحِكْمَةُ وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ، وَهَكَذَا نُعْطِي النُّبُوَّةَ لِمَنْ نُرِيدُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الْأَنْعَامِ: 124] وَقَالَ تَعَالَى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا] (4) } [الْإِسْرَاءِ: 21] وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "إِسْحَاقَ بْنِ أَحْمَدَ" مِنْ تَارِيخِهِ عَنِ الْمَأْمُونِ الْخَلِيفَةِ: أَنَّهُ رَأَى فِي قَصْرٍ بِبِلَادِ الرُّومِ مَكْتُوبًا بِالْحِمْيَرِيَّةِ، فَعُرِّبَ لَهُ، فَإِذَا هُوَ: بِاسْمِ اللَّهِ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا دَارَتْ نُجُومُ السَّمَاءِ فِي الْفَلَكِ إِلَّا بِنَقْلِ النَّعِيمِ عَنْ مَلِك قَدْ زَالَ سُلْطَانُهُ إِلَى مَلِكٍ. ومُلْكُ ذِي الْعَرْشِ دَائِمٌ أَبَدًا لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرِكٍ (5) .
وَقَوْلُهُ: {تُولِجُ (6) اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ (7) النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أَيْ: تَأْخُذُ مِنْ طُولِ هَذَا فَتَزِيدُهُ فِي قِصَرِ هَذَا فَيَعْتَدِلَانِ، ثُمَّ تَأْخُذُ مِنْ هَذَا فِي هَذَا فَيَتَفَاوَتَانِ، ثُمَّ يَعْتَدِلَانِ. وَهَكَذَا فِي فُصُولِ السَّنَةِ: رَبِيعًا وَصَيْفًا وَخَرِيفًا وَشِتَاءً.
وَقَوْلُهُ: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} أَيْ: تُخْرِجُ الحبَّة مِنَ الزَّرْعِ وَالزَّرْعَ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالنَّخْلَةَ مِنَ النَّوَاةِ وَالنَّوَاةَ مِنَ النَّخْلَةِ، وَالْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَالدَّجَاجَةَ مِنَ الْبَيْضَةِ وَالْبَيْضَةَ مِنَ الدَّجَاجَةِ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَيْ: تُعْطِي مَنْ شِئْتَ مِنَ الْمَالِ مَا لَا يَعده وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْصَائِهِ، وَتَقْتُرُ عَلَى آخَرِينَ، لِمَا لك
__________
(1) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(2) في أ، و: "تحكم".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(4) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(5) تاريخ دمشق لابن عساكر (2/706 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (4/264) .
(6) في جـ، ر: "يولج".
(7) في جـ، ر: "يولج".

الصفحة 29