كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)
وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِير أَيْضًا، عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ السَّلَمِيّ قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ فِي نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَطَعِمُوا فَآتَاهُمْ بِخَمْرٍ فَشَرِبُوا مِنْهَا، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحَرَّمَ (1) الْخَمْرُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَقَدَّموا عَلِيًّا فَقَرَأَ بِهِمْ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فَلَمْ يَقْرَأْهَا كَمَا يَنْبَغِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي المُثَنَّى، حَدَّثَنَا الحجَّاج بْنُ المِنْهال، حَدَّثَنَا حَمَّاد، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ -وَهُوَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمي؛ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ صَنَعَ طَعَامًا وَشَرَابًا، فَدَعَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، فَقَرَأَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ. وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ. وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2) .
وَقَالَ الْعَوْفِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ] (3) } وَذَلِكَ أَنَّ رِجَالًا كَانُوا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ وَهُمْ سُكَارَى، قَبْلَ أَنْ تُحَرَّمَ الْخَمْرُ، فَقَالَ اللَّهُ: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الْآيَةَ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو رَزِين ومُجَاهدٌ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ: كَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْرَ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَوَاتِ ثُمَّ نُسِخَ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} لَمْ يَعْنِ بِهَا سُكْرَ الْخَمْرِ، وَإِنَّمَا عَنَى بِهَا سُكْرَ النُّوَّمِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالصَّوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ سُكْر الشَّرَابِ. قَالَ: وَلَمْ يَتَوَجَّهِ النَّهْيُ إِلَى السكْران الَّذِي لَا يَفْهَمُ الْخِطَابَ؛ لِأَنَّ ذَاكَ فِي حُكْمِ الْمَجْنُونِ، وَإِنَّمَا خُوطِب بِالنَّهْيِ الثَّمِل الَّذِي يَفْهَمُ التَّكْلِيفَ (4) .
وَهَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ. وَقَدْ ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ إِلَى مَنْ يَفْهَمُ الْكَلَامَ، دُونَ السَّكْرَانِ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يُقَالُ لَهُ؛ فَإِنَّ الْفَهْمَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التَّعْرِيضَ بِالنَّهْيِ عَنِ السُّكْر بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِكَوْنِهِمْ مَأْمُورِينَ بِالصَّلَاةِ فِي الْخَمْسَةِ الْأَوْقَاتِ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَا يَتْمَكَنُّ شَارِبُ الْخَمْرِ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا دَائِمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ: 102] وَهُوَ الْأَمْرُ لَهُمْ بِالتَّأَهُّبِ لِلْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الطَّاعَةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} هَذَا أَحْسَنُ مَا يُقَالُ فِي حَدِّ السَّكْرَانِ: إِنَّهُ الذي لا يدري ما
__________
(1) في ر: "تحرم".
(2) تفسير الطبري (8/376) .
(3) زيادة من ر، أ.
(4) بعدها في أ: "وقد يحتمل أن يكون المراد".
الصفحة 310