كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ لَمْ (1) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} اسْتَنْبَطَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِعَادِمِ الْمَاءِ إِلَّا بَعْدَ تَطَلُّبِهِ، فَمَتَى طَلَبَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ جَازَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّيَمُّمُ. وَقَدْ ذَكَرُوا كَيْفِيَّةَ الطَّلَبِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ، كَمَا هُوَ (2) فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ عِمران بْنِ حُصَيْنٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ فِي (3) الْقَوْمِ، فَقَالَ: "يَا فُلَانُ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ أَلَسْتَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ " قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنْ أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ. قَالَ: "عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ". (4)
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ (5) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: الْقَصْدُ. تَقُولُ الْعَرَبُ: تَيَمَّمَكَ (6) اللَّهُ بِحِفْظِهِ، أَيْ: قَصَدَكَ. وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ (7) وَلَمَّا رَأتْ (8) أنَّ المَنِية ورِدُها ... وَأَنَّ الحصَى مِنْ تَحْتِ أَقْدَامِهَا دَامِ ...
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ ... يَفِيءُ عَلَيْهَا الْفَيْءُ عَرْمَضها طَامِ ...
وَالصَّعِيدُ قِيلَ: هُوَ كُلُّ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ التُّرَابُ، وَالرَّمْلُ، وَالشَّجَرُ، وَالْحَجَرُ، وَالنَّبَاتُ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقِيلَ: مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ التُّرَابِ فَيُخْتَصُّ التُّرَابُ وَالرَّمْلُ وَالزَّرْنِيخُ، وَالنَّوْرَةُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: هُوَ التُّرَابُ فَقَطْ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الْكَهْفِ: 40] أَيْ: تُرَابًا أَمْلَسَ طَيِّبًا، وَبِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ" (9) وَفِي لَفْظٍ: "وَجُعِلَ تُرَابُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ". قَالُوا: فَخَصَّصَ الطَّهُورِيَّةَ بِالتُّرَابِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ، فَلَوْ كَانَ غَيْرُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ لَذَكَرَهُ مَعَهُ.
وَالطَّيِّبُ هَاهُنَا قِيلَ: الْحَلَالُ. وَقِيلَ: الَّذِي لَيْسَ بِنَجَسٍ. كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدان (10) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ حِجَجٍ، فَإِذَا وَجَدَهُ، (11) فَلْيُمِسَّهُ بَشرته، فَإِنَّ ذَلِكَ خير له".
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ: وَصَحَّحَهُ ابْنُ حُبَّانَ أَيْضًا (12) وَرَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (13) وَصَحَّحَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الْقَطَّانُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَطْيَبُ الصَّعِيدِ تُرَابُ
__________
(1) في ر، أ: "فلم".
(2) في أ: "ورد".
(3) في أ: "مع".
(4) صحيح البخاري برقم (348) وصحيح مسلم برقم (682) .
(5) في أ: "فلم".
(6) في ر، أ: "نواك".
(7) البيت في لسان العرب لابن منظور، مادة (ضرج) .
(8) في ر: "رأيت".
(9) صحيح مسلم برقم (522) .
(10) في أ: "نجدان".
(11) في ر، أ: "فإذا وجد الماء".
(12) سبق تخريجه، ورواه ابن حبان في صحيحه (2/303) "الإحسان".
(13) مسند البزار برقم (310) ، "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (1/261) : "رواه البزار وقال: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الوجه قلت: ورجاله رجال الصحيح".

الصفحة 318