كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)
الْآبَاءِ لَا تُجْزِي عَنِ الْأَبْنَاءِ شَيْئًا، فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (1) } [الْبَقَرَةِ:141] .
ثُمَّ قَالَ: {وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا} أَيْ: وَكَفَى بِصُنْعِهِمْ (2) هَذَا كَذِبًا وَافْتِرَاءً ظَاهِرًا.
وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} أَمَّا "الْجِبْتُ" فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ فَائِدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: "الْجِبْتُ": السِّحْرُ، وَ "الطَّاغُوتُ": الشَّيْطَانُ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، [وَأَبِي مَالِكٍ] (3) وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَعَطِيَّةَ: "الْجِبْتُ" الشَّيْطَانُ -زَادَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْحَبَشِيَّةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: "الْجِبْتُ": الشِّرْكُ. وَعَنْهُ: "الْجِبْتُ": الْأَصْنَامُ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ: "الْجِبْتُ": الْكَاهِنُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الْجِبْتُ": حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: "الْجِبْتُ": كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ.
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو نَصْرِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ "الصِّحَاحِ": "الْجِبْتُ" كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ وَالْكَاهِنِ (4) وَالسَّاحِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ: "الطِّيَرَةُ وَالْعِيَافَةُ وَالطَّرْقُ مِنَ الْجِبْتِ" قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ مِنْ مَحْضِ الْعَرَبِيَّةِ، لِاجْتِمَاعِ الْجِيمِ وَالتَّاءِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ (5) مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ ذَوْلَقِيٍّ. (6)
وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذكره، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا، عَوْفٌ عَنْ حَيَّانَ أَبِي الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ -وَهُوَ قَبِيصَةُ بْنُ مُخَارِقٍ-أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْعِيَافَةَ وَالطَّرْقَ وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ" وَقَالَ عَوْفٌ: "الْعِيَافَةُ": زَجْرُ الطَّيْرِ، وَ"الطَّرْقُ": الْخَطُّ، يُخَطُّ فِي الْأَرْضِ، وَ"الْجِبْتُ" قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الشَّيْطَانُ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَوْفٍ الْأَعْرَابِيِّ، بِهِ (7)
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى "الطَّاغُوتِ" فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الضَّيْفِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ "الطَّوَاغِيتِ" فَقَالَ: هُمْ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "الطَّاغُوتُ": الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ إِنْسَانٍ، يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَهُوَ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: "الطَّاغُوتُ": هُوَ كُلُّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَوْلُهُ: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} أَيْ: يُفَضِّلُونَ الْكَفَّارَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِجَهْلِهِمْ، وَقِلَّةِ دِينِهِمْ، وَكَفْرِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ الَّذِي بِأَيْدِيهِمْ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمَقْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: جَاءَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ، فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ. فَقَالُوا: نَحْنُ نَصِلُ الْأَرْحَامَ، وَنَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، وَنَسْقِي الْمَاءَ عَلَى اللَّبَنِ، وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ، وَنَسْقِي الْحَجِيجَ -وَمُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ، قَطَّعَ أَرْحَامَنَا، وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو (8) غِفَارٍ، فَنَحْنُ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَقَالُوا: أَنْتُمْ خَيْرٌ وَأَهْدَى سَبِيلًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا] (9) } .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: أَلَا تَرَى هَذَا الصُّنْبُورَ الْمُنْبَتِرَ مِنْ قَوْمِهِ؟ يَزْعُمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَجِيجِ، وَأَهْلُ السِّدَانَةِ، وَأَهْلُ السِّقَايَةِ! قَالَ: أَنْتُمْ خَيْرٌ. قَالَ فَنَزَلَتْ (10) {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ} [الْكَوْثَرِ:3] وَنَزَلَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} إِلَى {نَصِيرًا} .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِينَ حَزَّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِي قُرَيْظَةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَسَلَّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ، وَالرَّبِيعُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، وَأَبُو عَمَّارٍ، وَوَحْوَحُ (11) بْنُ عَامِرٍ، وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ. فَأَمَّا وَحْوَحُ (12) وَأَبُو عَمَّارٍ وَهَوْذَةُ فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَكَانَ سَائِرُهُمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكُتُبِ الْأُوَلِ (13) فَسَلُوهُمْ: أَدِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ؟ فَسَأَلُوهُمْ، فَقَالُوا: بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ، وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمَّنِ اتَّبَعَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا. أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا] (14) } إِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} .
وَهَذَا لَعْنٌ لَهُمْ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّهُمْ لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا ذَهَبُوا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا قَالُوا لَهُمْ ذَلِكَ ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم، وجاؤوا مَعَهُمْ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، حَتَّى حَفَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ الْخَنْدَقَ، فَكَفَى اللَّهُ شَرَّهُمْ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) في د: "بصنيعهم".
(3) زياد من ر، أ.
(4) في ر: "الكافر".
(5) في أ: "في حرف واحد".
(6) الصحاح (1/245)
(7) المسند (5/60) وسنن أبي داود برقم (3907) وسنن النسائي الكبرى برقم (11108) .
(8) في د: "من".
(9) زيادة من ر، أ.
(10) في أ: "فنزلت فيهم".
(11) في أ: "دحرج".
(12) في أ: "دحرج".
(13) في ر، أ: "الأولى".
(14) زيادة من أ.
الصفحة 334