كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

يُسرّ إِيمَانَهُ وَيُخْفِيهِ مِنْ قَوْمِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ آنِفًا، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] (1) } الْآيَةَ [الْأَنْفَالِ: 26] ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، كَمَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي عَمْرَة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تُخْفُونَ إِيمَانَكُمْ فِي الْمُشْرِكِينَ.
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنُ جُرَيْج، أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} تَسْتَخْفُونَ بِإِيمَانِكُمْ، كَمَا اسْتَخْفَى (2) هَذَا الرَّاعِي بِإِيمَانِهِ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وذُكر عَنْ قَيْسٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَوْلُهُ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [تَوَرَّعُونَ عَنْ مَثَلِ هَذَا، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} ] (3) لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [فَتَبَيَّنُوا} وَقَالَ السُّدِّيُّ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} ] (4) أَيْ: تَابَ عَلَيْكُمْ، فَحَلَفَ أُسَامَةُ لَا يَقْتُلُ (5) رَجُلًا يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" بَعْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَمَا لَقِيَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَتَبَيَّنُوا} تَأْكِيدٌ (6) لِمَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
__________
(1) زيادة من ر، أ.
(2) في أ: "يستخفى"
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ر: "لا يقاتل".
(6) في ر: "تأكيدا".
{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ (1) حَدَّثَنَا شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَكَتَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَشَكَا ضِرَارَتَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] (2) {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُ فُلَانًا " فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ وَالْكَتِفُ فَقَالَ: " اكْتُبْ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " وخَلْف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا ضَرِيرٌ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ} (3)
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عن صالح بن
__________
(1) في أ: "عمرو".
(2) زيادة من ر، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4593) ورقم (4594) .

الصفحة 385