كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

بَعْدَهَا -يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، حِينَ جَهَّزَ إِلَيْهِمُ الْجَيْشَ -: "لَا يُصَلِّيَنَّ أحدٌ مِنْكُمُ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ"، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ألا تعجيلَ الْمَسِيرِ، وَلَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، فَصَلَّوُا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا فِي الطَّرِيقِ. وأخَّر آخَرُونَ مِنْهُمُ الْعَصْرَ، فَصَلَّوْهَا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَمْ يُعَنِّف رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ (1) وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا فِي كِتَابِ السِّيرَةِ، وبَيَّنا أَنَّ الَّذِينَ صَلَّوُا الْعَصْرَ لِوَقْتِهَا أَقْرَبُ إِلَى إِصَابَةِ الْحَقِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُونَ مَعْذُورِينَ أَيْضًا، وَالْحُجَّةُ هَاهُنَا فِي عُذْرِهِمْ فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ الْجِهَادِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى حِصَارِ النَّاكِثِينَ لِلْعَهْدِ (2) مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَلْعُونَةِ الْيَهُودِ. وَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَالُوا: هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ بَعْدُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ نُسِخَ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِذَلِكَ، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ، وَلَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا (3) مَا حَكَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي صَحِيحِهِ، حَيْثُ قَالَ:
"بَابُ الصَّلَاةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ": قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأ الفتحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، صَلُّوا إِيمَاءً، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِيمَاءِ أخَّروا الصَّلَاةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ الْقِتَالُ، أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلُّوا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لَا يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ، وَيُؤَخِّرُونَهَا حَتَّى يَأْمَنُوا. وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: حَضَرْتُ مُنَاهَضَةَ (4) حِصْنِ تُسْتر عِنْدَ إِضَاءَةِ الْفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلَاةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى، فَفُتح لَنَا، قَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. (5)
انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِحَدِيثِ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ بِحَدِيثِ أَمْرِهِ إِيَّاهُمْ أَلَّا يُصَلُّوا الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَكَأَنَّهُ كَالْمُخْتَارِ لِذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِمَنْ جَنَحَ إِلَى ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَحْتَجَّ (6) بِصَنِيعِ أَبِي مُوسَى وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ فَتْحِ تُسْتَرَ فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ (7) غَالِبًا، وَلَكِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَ] (8) قَالَ هَؤُلَاءِ: وَقَدْ كَانَتْ صَلَاةُ الْخَوْفِ مَشْرُوعَةً فِي الْخَنْدَقِ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الرِّقَاع كَانَتْ قَبْلَ الْخَنْدَقِ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَالْوَاقِدِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَاتِبُهُ، وَخَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاط وَغَيْرُهُمْ (9) وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَتْ ذَاتُ الرِّقَاعِ بَعْدَ الْخَنْدَقِ، لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَمَا قَدم إِلَّا فِي خَيْبَرَ، وَاللَّهُ أعلم. والعجب -كل العجب -
__________
(1) صحيح البخاري برقم (946) وصحيح مسلم برقم (1770) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(2) في ر: "للعهود".
(3) في د: "يشكل عليه".
(4) في د: "مناهزة".
(5) ذكره البخاري تعليقا (2/434) .
(6) في أ: "أن يقول".
(7) في أ: "شهر".
(8) زيادة من د.
(9) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (2/203) والمغازي للواقدي (1/335) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/61) .

الصفحة 399