كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أَيْ: هُوَ الَّذِي أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ وَحَسَّنَهُ لَهُمْ وَزَيَّنَهُ، وَهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ إِبْلِيسَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] (1) } [يس: 60] وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ ادَّعَوْا عِبَادَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سَبَأٍ: 41] .
وَقَوْلُهُ: {لَعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ: طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ جِوَارِهِ.
وَقَالَ: {لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أَيْ: مُعَيَّنا مقدَّرًا مَعْلُومًا. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ (2) إِلَى النَّارِ، وَوَاحِدٌ إِلَى الْجَنَّةِ.
{وَلأضِلَّنَّهُمْ} أَيْ: عَنِ الْحَقِّ {وَلأمَنِّيَنَّهُمْ} أَيْ: أُزَيِّنُ لَهُمْ تَرْكَ التَّوْبَةِ، وَأَعِدُهُمُ الْأَمَانِيَ، وَآمُرُهُمْ بِالتَّسْوِيفِ وَالتَّأْخِيرِ، وَأَغُرُّهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ} قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: يَعْنِي تَشْقِيقَهَا (3) وَجَعْلَهَا سِمَةً وَعَلَامَةً لِلْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ.
{وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ خِصَاءَ (4) الدَّوَابِّ. وَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعِكْرِمَةَ، وَأَبِي عِيَاضٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَقَتَادَةَ، وَالثَّوْرِيِّ. وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ النَّهْيُ عن ذلك (5) .
وقال الحسن ابن أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: يَعْنِي بِذَلِكَ الوَشْم. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ النَّهْيُ عَنِ الْوَشْمِ فِي الْوَجْهِ (6) وَفِي لفظٍ: "لَعَنَ (7) اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ". وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ والمستوشِمات، وَالنَّامِصَاتِ والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الْحَشْرِ: 7] (8) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمُ النخَعي، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَطَاءٌ الخُراساني فِي قَوْلِهِ: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} يَعْنِي: دِينَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الرُّومِ: 30] عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ أَمْرًا، أَيْ: لَا تُبَدِّلُوا فِطْرَةَ اللَّهِ، وَدَعُوا النَّاسَ عَلَى فِطْرَتِهِمْ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ (9) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على
__________
(1) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(2) في ر: "وتسعين".
(3) في ر: "يشققنها"، وفي أ: "نشققها".
(4) في ر: "خصى".
(5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/225) والبيهقي في السنن الكبرى (10/24) من طريق نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عن خصاء الخيل والبهائم" وقال ابن عمر: فيه نماء الخلق.
(6) صحيح مسلم برقم (2117) عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه".
(7) في د، ر، أ: "لعنة".
(8) صحيح البخاري برقم (5948) .
(9) صحيح البخاري برقم (1385) ، وصحيح مسلم برقم (2658) .

الصفحة 415