كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أَيِ: اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا، أَيْ: يَكُونُ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلشَّرِيعَةِ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فَقَدَ الْعَمَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَسَدَ. فَمَنْ فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا. وَمَتَى جَمَعَهُمَا فَهُوَ عَمَلُ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ] (1) } [الْأَحْقَافِ: 16] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] (2) } [آلِ عِمْرَانَ: 68] وَقَالَ تَعَالَى: { [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (3) } [الْأَنْعَامِ: 161] وَ {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النَّحْلِ: 123] وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا، أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ.
وَقَوْلُهُ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، حَيْثُ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الخُلَّة الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النَّجْمِ: 37] قَالَ كَثِيرُونَ (4) مِنَ السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ ووفَّى (5) كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] (6) } الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: 124] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (7) } [النَّحْلِ: 120-122] .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهِمْ: فَقَرَأَ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا} فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرّت عينُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ نَاحِيَتِهِ جَدْب، فَارْتَحَلَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ -وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ -لِيَمْتَارَ طَعَامًا لِأَهْلِهِ مِنْ قِبَله، فَلَمْ يُصِبْ عِنْدَهُ حَاجَتَهُ. فَلَمَّا قَرُب مِنْ أَهْلِهِ مَرَّ بِمَفَازَةٍ ذَاتِ رَمْلٍ، فَقَالَ: لَوْ مَلَأْتُ غَرَائري مِنْ هَذَا الرَّمْلِ، لِئَلَّا أغُمّ أَهْلِي بِرُجُوعِي إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مِيرَةٍ، وَلِيَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَتَحَوَّلَ مَا فِي غَرَائِرِهِ مِنَ الرَّمْلِ دَقِيقًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَامَ وقام أهله ففتحوا الغرائر،
__________
(1) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(2) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) زيادة من أ.
(4) في د: "كثير".
(5) في أ: "به وفى".
(6) زيادة من ر، أ.
(7) زيادة من ر.

الصفحة 422