كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

{وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بَعَثَ اللَّهُ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِمُعْجِزَةٍ تُنَاسِبُ أَهْلَ زَمَانِهِ، فَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَانِ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، السِّحْرُ وَتَعْظِيمُ السَّحَرَةِ. فَبَعَثَهُ اللَّهُ بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَت الْأَبْصَارَ وَحَيَّرَتْ كُلَّ سَحَّارٍ، فَلَمَّا اسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ الْعَظِيمِ الْجَبَّارِ انْقَادُوا لِلْإِسْلَامِ، وَصَارُوا مِنَ الْأَبْرَارِ. وَأَمَّا عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فبُعث فِي زَمَنِ الْأَطِبَّاءِ وَأَصْحَابِ عِلْمِ الطَّبِيعَةِ، فَجَاءَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ بِمَا لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَيَّدًا مِنَ الَّذِي شَرَعَ الشَّرِيعَةَ. فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَةٌ عَلَى إِحْيَاءِ الْجَمَادِ، أَوْ عَلَى مُدَاوَاةِ الْأَكْمَهِ، وَالْأَبْرَصِ، وَبَعْثِ مَنْ هُوَ فِي قَبْرِهِ رَهِينٌ إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ؟ وَكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ [اللَّهُ] (1) فِي زَمَنِ الْفُصَحَاءِ وَالْبُلَغَاءِ وَنَحَارِيرِ الشُّعَرَاءِ، فَأَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنَ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَوِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ، أَوْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِنْ مِثْلِهِ، أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِأَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ لَا يُشْبِهُهُ كَلَامَ الْخَلْقِ أَبَدًا.
وَقَوْلُهُ: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} أَيْ: أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَكَلَ أَحَدُكُمُ الْآنَ، وَمَا هُوَ مُدَّخِرٌ [لَهُ] (2) فِي بَيْتِهِ لِغَدِهِ {إِنَّ فِي ذَلِكَ} أَيْ: فِي ذَلِكَ كُلِّهِ {لآيَةً لَكُمْ} أَيْ: عَلَى صدْقي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
{وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ: مُقَرِّرٌ لَهُمْ ومُثَبّت {وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، نسَخ بَعْضَ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: لَمْ يَنْسَخْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا أحَلّ لَهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا يَتَنَازَعُونَ (3) فِيهِ فأخطؤوا، فَكَشَفَ (4) لَهُمْ عَنِ الْمُغَطَّى فِي ذَلِكَ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزُّخْرُفِ: 63] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أَيْ: بِحُجَّةٍ وَدَلَالَةٍ عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَقُولُهُ لَكُمْ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أَيْ: أَنَا وَأَنْتُمْ سَوَاءٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ إِلَيْهِ {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
__________
(1) زيادة من جـ، أ، و.
(2) زيادة من ر، أ، و.
(3) في جـ، ر، أ، و: "تنازعوا".
(4) في أ، و: "وانكشف".
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
يَقُولُ تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى} أَيِ: اسْتَشْعَرَ مِنْهُمُ التَّصْمِيمَ عَلَى الْكُفْرِ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الضَّلَالِ قَالَ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ مَنْ يَتبعني إِلَى اللَّهِ؟ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ: مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّهِ؟ وَقَوْلُ (1) مُجَاهِدٍ أقربُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَنْصَارِي فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ؟ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ: "مَنْ رَجُل يُؤْوِيني عَلى [أَنْ] (2) أُبَلِّغَ كلامَ رَبِّي، فإنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أنْ أُبَلِّغَ كَلامَ
__________
(1) في أ: "وقال".
(2) زيادة من ر، وفي جـ، أ، و: "يؤويني حتى أبلغ".

الصفحة 45