كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

فَنَزَلَتْ حَتَّى وَلَجت فَرْجَهَا بِمَنْزِلَةِ لَقَاحِ الْأَبِ الْأُمَّ (1) وَالْجَمِيعُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِعِيسَى: إِنَّهُ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَوَلَّدَ (2) مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاشِئٌ عَنِ الْكَلِمَةِ الَّتِي قَالَ لَهُ بِهَا: كُنْ، فَكَانَ. وَالرُّوحِ الَّتِي أُرْسِلَ بِهَا جِبْرِيلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [الْمَائِدَةِ: 75] . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آلِ عِمْرَانَ: 59] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا (3) مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 91] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (4) } [التَّحْرِيمِ: 12] . وَقَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْمَسِيحِ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ] (5) } [الزُّخْرُفِ: 59] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} هُوَ كَقَوْلِهِ: {كُنْ} [آلِ عِمْرَانَ: 59] فَكَانَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ شَاذَّ بْنَ يَحْيَى يَقُولُ: فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} قَالَ: لَيْسَ الكلمةُ صَارَتْ عِيسَى، وَلَكِنْ بِالْكَلِمَةِ صَارَ عِيسَى.
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمَّا ادَّعَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ (6) فِي قَوْلِهِ: {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أَيْ: أَعْلَمَهَا بِهَا، كَمَا زَعَمَهُ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آلِ عِمْرَانَ: 45] أَيْ: يُعْلِمُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الْقَصَصِ: 86] بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهَا الْكَلِمَةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا جِبْرِيلُ إِلَى مَرْيَمَ، فَنَفْخَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ، فَكَانَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا (7) الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي عُمَيْر بْنُ هَانِئٍ، حَدَّثَنِي جُنَادةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وروحٌ مِنْهُ، والجنةَ حُقٌّ، والنارَ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ". قَالَ الْوَلِيدُ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُمير بْنِ هَانِئٍ، عَنْ جُنَادة زَادَ: "مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ".
وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ رُشَيد، عَنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ، بِهِ (8) وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، بِهِ (9) .
فَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ: {وَرُوحٌ مِنْهُ} كَقَوْلِهِ {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ}
__________
(1) في د: "والأم".
(2) في أ: "مولد".
(3) في أ: "فيه"، وهو خطأ.
(4) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(6) تفسير الطبري (9/418) .
(7) في ر: "ابن".
(8) صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (28) .
(9) صحيح مسلم برقم (28) .

الصفحة 478