كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 2)

الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} أَيْ: تَحْتَمِلُ (1) دَلَالَتُهَا مُوَافَقَةَ الْمُحْكَمِ، وَقَدْ تَحْتَمِلُ (2) شَيْئًا آخَرَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالتَّرْكِيبِ، لَا مِنْ حَيْثُ الْمُرَادِ.
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ، فَرُوِيَ عَنِ السَّلَفِ عِبَارَاتٌ كَثِيرَةٌ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [أَنَّهُ قَالَ] (3) الْمُحْكَمَاتُ نَاسِخُهُ، وَحَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ، وَمَا يُؤْمَرُ (4) بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ.
وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، ومُقاتل بْنِ حَيّان، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، والسُّدِّي أَنَّهُمْ قَالُوا: الْمُحْكَمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْكَمَاتُ [فِي] (5) قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الْأَنْعَامِ: 151] وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الْإِسْرَاءِ: 23] إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ بَعْدَهَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَحَكَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر [ثُمَّ] (6) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زيد، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سُوَيْد أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَعْمَر وَأَبَا فَاخِتَةَ تَرَاجَعَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {هُنَّ (7) أُمُّ الْكِتَابِ} فَقَالَ أَبُو فَاخِتَةَ: فَوَاتِحُ السُّوَرِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَعْمَر: الْفَرَائِضُ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ (8) .
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَة، عَنْ عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} يَقُولُ: أَصْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُنَّ أُمَّ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُنَّ مَكْتُوبَاتٌ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَرْضَى بِهِنَّ.
وَقِيلَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ: إِنَّهُنَّ الْمَنْسُوخَةُ، وَالْمُقَدَّمُ مِنْهُ وَالْمُؤَخَّرُ، وَالْأَمْثَالُ فِيهِ وَالْأَقْسَامُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ. رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ: هِيَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْمُتَشَابِهَاتُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا. وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزُّمَرِ: 23] هُنَاكَ ذَكَرُوا: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَكُونُ فِي سِيَاقٍ وَاحِدٍ، وَالْمَثَانِي هُوَ الْكَلَامُ فِي شَيْئَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كَصِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ، وَذِكْرِ حَالِ الْأَبْرَارِ ثُمَّ حَالِ (9) الْفُجَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُحْكَمَ.
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، حَيْثُ قَالَ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} فِيهِنَّ حُجَّةُ الرَّبِّ، وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ، وَدَفْعُ الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا وُضِعْنَ (10) عَلَيْهِ.
قَالَ: وَالْمُتَشَابِهَاتُ فِي الصِّدْقِ، لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ، كَمَا ابْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ أَلَّا (11) يَصْرِفْنَ إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق.
__________
(1) في أ، ر: "يحتمل".
(2) في أ، ر: "يحتمل".
(3) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(4) في جـ، ر: "يؤمن".
(5) زيادة من جـ، ر.
(6) زيادة من أ، و.
(7) في ر: "هي".
(8) تفسير ابن أبي حاتم (2/55) .
(9) في و: "وحال".
(10) في أ: "وصفن".
(11) في جـ: "لا".
عُوتِبَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا عَلِيًّا" إِنَّمَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى الْآيَةِ الْآمِرَةِ بِالصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ النَّجْوَى، فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَر غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا عليٌّ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ (1) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ} الْآيَةَ [سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ: 13] وَفِي كَوْنِ هَذَا عِتَابًا نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ كَانَ نَدْبًا لَا إِيجَابًا، ثُمَّ قَدْ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْهُمْ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَلَمْ يَرَ (2) مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَهُ. وَقَوْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ: "إِنَّهُ لَمْ يُعَاتَبْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ" فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ فَإِنَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي الْأَنْفَالِ الَّتِي فِيهَا الْمُعَاتَبَةُ عَلَى أَخْذِ الفِداء عَمَّت جَمِيعَ مَنْ أَشَارَ بِأَخْذِهِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهَا إِلَّا عُمر بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَعُلِمَ بِهَذَا، وَبِمَا تَقَدَّمَ ضَعفُ هَذَا الْأَثَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ (3) ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْث، حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ: قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كُتب لِعَمْرِو بْنِ حَزْم حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْران، وَكَانَ الْكِتَابُ عِنْدَ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، فِيهِ: هَذَا بَيَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَكَتَبَ الْآيَاتِ مِنْهَا حَتَّى بَلَغَ: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (4) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: هَذَا كتابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا، الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْم، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقه أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ، وَيَأْخُذَ صَدَقَاتِهِمْ. فَكَتَبَ (5) لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا، وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ، فَكَتَبَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هَذَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} عَهْدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" (6) .
قَوْلُهُ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي بِالْعُقُودِ: الْعُهُودَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ (7) قَالَ: وَالْعُهُودُ مَا كَانُوا يَتَعَاهَدُونَ (8) عَلَيْهِ مِنَ الْحِلْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} يَعْنِي بِالْعُهُودِ: يَعْنِي مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ، وَمَا فَرَضَ وَمَا حَد فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ، فَلَا (9) تَغْدِرُوا وَلَا تَنْكُثُوا، ثُمَّ شَدَّدَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} إِلَى قَوْلِهِ: {سُوءُ الدَّارِ} [الرَّعْدِ: 25] .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قَالَ: مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ (10) وَمَا أَخَذَ اللَّهُ مِنَ الْمِيثَاقِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِالْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (11) وَالْكِتَابِ أَنْ يُوفُوا بِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَرَائِضِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
__________
(1) في ر، أ: "صدقة".
(2) في أ: "فلم يصدر".
(3) بداية تفسير الآيات من المخطوطة د.
(4) تفسير الطبري (9/454) .
(5) في د: "كتب".
(6) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (5/413) من طريق أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.
(7) في د: "عليه".
(8) في د، أ: "والعقود ما كانوا يتعاقدون".
(9) في د، ر، أ: "ولا".
(10) في د: "ما أحل الله وحرم"، وفي ر: "ما أحل وحرم".
(11) زيادة من أ.

الصفحة 7