كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَقَوْلُهُ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أُمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ الْمُسْلِمُونَ فَإِذَا تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُمُ انْحِتَامُ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَقَطْعِ الرِّجْلِ، وَهَلْ يَسْقُطُ قَطْعُ الْيَدِ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ الْجَمِيعِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ (1) عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَانَ حَارِثَةُ (2) بْنُ بَدْرٍ التَّمِيمِيُّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَكَانَ قَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ وَحَارَبَ، فَكَلَّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمُ: الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، فَكَلَّمُوا عَلِيًّا، فَلَمْ يُؤَمِّنْهُ. فَأَتَى سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ فَخَلْفَهُ فِي دَارِهِ، ثُمَّ أَتَى عَلِيًّا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَرَأَيْتَ مَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قَالَ: فَكَتَبَ لَهُ أَمَانًا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ: فَإِنَّهُ حَارِثَةُ (3) بْنُ بَدْرٍ.
وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنِ مُجَاهِدٍ (4) عَنِ الشَّعْبِيِّ، بِهِ. وَزَادَ: فَقَالَ حَارِثَةُ (5) بْنُ بَدْرٍ:
أَلَا أبلغَن (6) هَمْدان إمَّا لقيتَها ... عَلى النَّأي لَا يَسْلمْ عَدو يعيبُها ...
لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي الْـ ... إلَه ويَقْضي بِالْكِتَابِ خَطيبُها (7)
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ السُّدِّي -وَمِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ مَراد إِلَى أَبِي مُوسَى، وَهُوَ عَلَى الْكُوفَةِ فِي إِمَارَةِ عُثْمَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَعْدَمَا صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ، أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُرَادِيُّ، وَإِنِّي كُنْتُ حَارَبْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَسَعَيْتُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنِّي تُبْتُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدر عليَّ. فَقَامَ أَبُو مُوسَى فَقَالَ: إِنَّ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَإِنَّهُ كَانَ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَسَعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، وَإِنَّهُ تَابَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَقِيَهُ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنْ يَكُ صَادِقًا فَسَبِيلُ مِنْ صِدْقٍ، وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا تُدْرِكْهُ ذُنُوبُهُ، فَأَقَامَ الرَّجُلُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ خَرَجَ فَأَدْرَكَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِ فَقَتَلَهُ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: قَالَ اللَّيْثُ، وَكَذَلِكَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيُّ، وَهُوَ الْأَمِيرُ عِنْدَنَا: أَنَّ عَلِيًّا الْأَسَدِيَّ حَارَبَ وَأَخَافَ (8) السَّبِيلَ وَأَصَابَ الدَّمَ وَالْمَالَ، فَطَلَبَهُ الْأَئِمَّةُ وَالْعَامَّةُ، فَامْتَنَعَ وَلَمْ يُقْدر عَلَيْهِ، حَتَّى جَاءَ تَائِبًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزُّمَرِ:53] ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَعِدْ قِرَاءَتَهَا. فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَغَمَدَ سَيْفَهُ، ثُمَّ جَاءَ تَائِبًا. حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنَ السَّحَرِ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ أَتَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ قَعَدَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غِمَارِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَسَفَرُوا عَرَفَهُ النَّاسُ، فَقَامُوا (9) إليه، فقال:
__________
(1) في ر، أ: "مجالد".
(2) في ر: "جارية".
(3) في ر: "جارية".
(4) في ر، أ: "مجالد".
(5) في ر، أ: "جارية".
(6) في أ: "بلغا".
(7) تفسير الطبري (10/280) .
(8) في ر: "وخاف".
(9) في أ: "وقاموا".

الصفحة 102