كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَهَذَا مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ أَفَعَلَ التَّفْضِيلِ فِيمَا لَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ مُشَارَكَةٌ، كَقَوْلِهِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا} [الفرقان: 24]
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ، أَنَّهُمْ يُصَانِعُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الظَّاهِرِ وَقُلُوبُهُمْ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الْكُفْرِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَقَدْ دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] } (1) أَيْ (2) عِنْدِكَ يَا مُحَمَّدُ {بِالْكُفْرِ} أَيْ: مُسْتَصْحِبِينَ الْكُفْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ خَرَجُوا وَهُوَ كَامِنٌ فِيهَا، لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا قَدْ سَمِعُوا مِنْكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَا نَجَعَتْ فِيهِمُ الْمَوَاعِظُ وَلَا الزَّوَاجِرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَهُمْ [قَدْ] خَرَجُوا بِهِ} (3) فَخَصَّهُمْ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ} أَيْ: وَاللَّهُ عَالِمٌ بِسَرَائِرِهِمْ وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِمْ ضَمَائِرُهُمْ (4) وَإِنْ أَظْهَرُوا لِخَلْقِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، وَتَزَيَّنُوا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ، فَإِنَّ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ، وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ} أَيْ: يُبَادِرُونَ إِلَى ذَلِكَ مِنْ تَعَاطِي الْمَآثِمِ وَالْمَحَارِمِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى النَّاسِ، وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَهُمْ بِالْبَاطِلِ {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أَيْ: لَبِئْسَ (5) الْعَمَلُ كَانَ عَمَلُهُمْ وَبِئْسَ الِاعْتِدَاءُ اعْتِدَاؤُهُمْ. (6)
قَوْلُهُ: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} يَعْنِي: هَلَّا كَانَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ. وَالرَّبَّانِيُّونَ وَهُمُ: الْعُلَمَاءُ الْعُمَّالُ أَرْبَابُ الْوِلَايَاتِ عَلَيْهِمْ، وَالْأَحْبَارُ: وَهُمُ الْعُلَمَاءُ فَقَطْ.
{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الرَّبَّانِيِّينَ، أَنَّهُمْ: بِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. يَعْنِي: فِي تَرْكِهِمْ ذَلِكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: قَالَ لِهَؤُلَاءِ حِينَ لَمْ يَنْهُوا، وَلِهَؤُلَاءِ حِينَ عَلِمُوا. قَالَ: وذلك الأركان. قال: "ويعملون"و "ويصنعون" وَاحِدٌ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا ابْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنَا قَيْس، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} قَالَ: كَذَا قَرَأَ.
وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا: إِنَّا لَا نَنْهَى. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذَكَرَهُ (7) يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْوَضَّاحِ، حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ سَعِيدٍ الهمذاني، قَالَ: رَأَيْتُهُ (8) بالرِّيِّ فَحَدَّثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر قَالَ: خَطَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الناس، إنما هلك من كان (9) قبلكم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر، أ: "إلى".
(3) زيادة من ر، أ، وهو الصواب".
(4) في ر: "ضمائركم".
(5) في ر: "أي بئس".
(6) في ر، أ: "وبئس الاعتماد اعتمادهم".
(7) في أ: "يذكر".
(8) في ر، أ: "لقيته".
(9) في ر: إنما هلك من هلك".

الصفحة 144