كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُ أَجْرَى عَنِ (2) الْقَوَاعِدِ الْأُصُولِيَّةِ، وَأَمَسُّ بِالْأُصُولِ (3) الشَّرْعِيَّةِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الصَّبَّاغِ لَهُ بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيج، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مُدًى، أَفَنَذْبَحُ بالقَصَب؟ قَالَ: (4) "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ". الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ، فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ عِنْدَ جُمْهُورٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، كَمَا سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ (5) عَنِ الْبَتْعِ -وَهُوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ-فَقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ" (6) أَفَيَقُولُ فَقِيهٌ: إِنَّ هَذَا اللَّفْظَ مَخْصُوصٌ بِشَرَابِ الْعَسَلِ؟ وَهَكَذَا هَذَا كَمَا سَأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الذَّكَاةِ فَقَالَ لَهُمْ كَلَامًا عَامًّا يَشْمَلُ ذَاكَ الْمَسْئُولَ عَنْهُ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ (7) قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ.
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَا صَدَمَهُ الْكَلْبُ أَوْ غَمَّه بِثِقَلِهِ، لَيْسَ مِمَّا أَنْهَرَ دَمَهُ، فَلَا يَحِلُّ لِمَفْهُومِ هَذَا الْحَدِيثِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَأَلُوا عَنِ الْآلَةِ الَّتِي يُذكّى بِهَا، وَلَمْ يَسْأَلُوا عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي يذَكَّى؛ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ، حَيْثُ قَالَ: "لَيْسَ السِّنُّ وَالظُّفُرُ، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظُّفُرُ فَمُدي الْحَبَشَةِ". وَالْمُسْتَثْنَى يَدُلُّ عَلَى جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَسْئُولَ عَنْهُ هُوَ الْآلَةُ، فَلَا يَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرْتُمْ.
فَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: بِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَا يُشْكِلُ عَلَيْكُمْ أَيْضًا، حَيْثُ يَقُولُ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ". وَلَمْ يَقُلْ: "فَاذْبَحُوا بِهِ" فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمَانِ مَعًا، يُؤْخَذُ حُكْمُ الْآلَةِ الَّتِي يُذَكَّى بِهَا، وَحُكْمُ الْمُذَكَّى، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِنْهَارِ دَمِهِ بِآلَةٍ لَيْسَتْ سِنًّا وَلَا ظُفُرًا. هَذَا مَسْلَكٌ.
وَالْمَسْلَكُ الثَّانِي: طَرِيقَةُ المُزَني، وَهِيَ أَنَّ السَّهْمَ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِيهِ بِأَنَّهُ إِنْ قَتَلَ بعَرْضِه فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ خَزَق فَكُل. وَالْكَلْبُ جَاءَ مُطْلَقًا فَيُحْمَلُ عَلَى مَا قَيَّدَ هُنَاكَ مِنَ الخَزْق؛ لِأَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْمُوجَبِ، وَهُوَ الصَّيْدُ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ هُنَا وَإِنِ اخْتَلَفَ السَّبَبُ، كَمَا وَجَبَ حَمْلُ مُطْلَقِ الْإِعْتَاقِ فِي الظِّهَارِ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى. وَهَذَا يَتَوَجَّهُ لَهُ عَلَى مَنْ يَسْلَمُ لَهُ أَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، وَلَيْسَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ قَاطِبَةً، فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ جَوَابٍ عَنْ هَذَا. وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: هَذَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ بِثِقَلِهِ، فَلَمْ يَحِلَّ قِيَاسًا عَلَى مَا قَتَلَهُ السَّهْمُ بعَرْضه (8) وَالْجَامِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا آلَةٌ لِلصَّيْدِ، وَقَدْ مَاتَ بِثِقْلِهِ فِيهِمَا. وَلَا يُعَارَضُ ذَلِكَ بِعُمُومِ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعُمُومِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ، وَهَذَا مَسْلَكٌ حَسَنٌ أَيْضًا.
مَسْلَكٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 4] عَامٌّ فِيمَا قَتَلْنَ بجرح أو
__________
(1) في أ: "رحمه الله".
(2) في ر، أ: "على".
(3) في ر، أ: " وأمشي عن الأصول".
(4) في ر: "فقال".
(5) في أ: "صلى الله عليه وسلم"
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (242) ومسلم في صحيحه برقم (2001) من حديث عائشة، رضي الله عنها.
(7) في أ: "صلى الله عليه وسلم"
(8) في ر، أ: "بثقله".

الصفحة 19