كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

غَيْرِهِ، لَكِنَّ هَذَا الْمَقْتُولَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا لَا يَخْلُو: (1) إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَطِيحًا أَوْ فِي حُكْمِهِ، أَوْ مُنْخَنِقًا أَوْ فِي حُكْمِهِ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَيَجِبُ تَقْدِيمُ [حُكْمِ] (2) هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تِلْكَ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ حَالَةَ الصَّيْدِ، حَيْثُ يَقُولُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "وَإِنْ أَصَابَهُ بِعَرْضِهِ (3) فَإِنَّمَا هُوَ وَقِيذ فَلَا تَأْكُلْهُ". وَلَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ فَصَلَ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنِ الْوَقِيذَ مُعْتَبَرٌ حَالَةَ الصَّيْدِ، وَالنَّطِيحَ لَيْسَ مُعْتَبِرًا، فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِحِلِّ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ لَا قَائِلَ بِهِ، وَهُوَ مَحْظُورٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [الْمَائِدَةِ: 4] لَيْسَتْ عَلَى عُمُومِهَا بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ مَخْصُوصَةً بِمَا صِدْنَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ، وَخَرَجَ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا الْحَيَوَانُ غَيْرُ الْمَأْكُولِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْعُمُومُ الْمَحْفُوظُ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِ الْمَحْفُوظِ. .
الْمَسْلَكُ الْآخَرُ: أَنَّ هَذَا الصَّيْدَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فِي حُكْمِ الْمَيْتَةِ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ قَدِ احْتَقَنَ فِيهِ الدِّمَاءُ وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَلَا تَحِلُّ قِيَاسًا عَلَى الْمِيتَةِ.
الْمَسْلَكُ الْآخَرُ: أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إِلَى آخِرِهَا، مَحْكَمَةٌ لَمْ يَدْخُلْهَا نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ آيَةُ التَّحْلِيلِ مُحْكَمَةٌ، أَعْنِي قَوْلَهُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] } [الْمَائِدَةِ: 4] (4) فَيَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ أَصْلًا وَتَكُونُ السُّنَّةُ جَاءَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قِصَّةُ السَّهْمِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَ مَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ مَا إِذَا خَزَفه المِعْرَاض فَيَكُونُ حَلَالًا؛ لِأَنَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَمَا دَخَلَ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَلَا يُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ وَقِيذٌ، فَيَكُونُ أَحَدَ أَفْرَادِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنَّ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا سَوَاءً، إِنْ كَانَ قَدْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ آيَةِ التَّحْلِيلِ. وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ بَلْ صَدَمَهُ أَوْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ فَهُوَ نَطِيحٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ فَلَا يَكُونُ حَلَالًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا فَصَّل فِي حُكْمِ الْكَلْبِ، فَقَالَ مَا ذَكَرْتُمْ: إِنْ جَرَحَهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَهُوَ حَرَامٌ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَلْبِ أَنْ يَقْتُلَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَأَمَّا اصْطِدَامُهُ هُوَ وَالصَّيْدُ فَنَادِرٌ، وَكَذَا قَتْلُهُ إِيَّاهُ بِثِقْلِهِ، فَلَمْ يُحْتَجَّ إِلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ، أَوْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ. وَأَمَّا السَّهْمُ وَالْمِعْرَاضُ فَتَارَةً يُخْطِئُ لِسُوءِ رَمْيِ رَامِيهِ أَوْ لِلْهَوَاءِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، بَلْ خَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِصَابَتِهِ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ كُلًّا مِنْ حُكْمَيْهِ مُفَصِّلًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ، ذَكَرَ حُكْمَ مَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ: "إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ" وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهُوَ أَيْضًا مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ آيَةِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ كَثِيرِينَ (5) فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، والشعبي، والنخَعي. وإليه ذهب
__________
(1) في ر: "لا تخلو"
(2) زيادة من ر، أ.
(3) في ر، أ: "بعرض".
(4) زيادة من أ.
(5) في ر: "عند كثير من العلماء".

الصفحة 20