كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الْأَزْلَامِ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْقِمَارِ، فِيهِ نَظَرٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَهَا فِي الِاسْتِخَارَةِ تَارَةً، وَفِي الْقِمَارِ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ [وَتَعَالَى] (1) قَدْ فرَّق بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الْقِمَارِ وَهُوَ الْمَيْسِرُ، فَقَالَ فِي آخِرِ السُّورَةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ [فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ] مُنْتَهُونَ} (2) [الْآيَتَانِ:90، 91] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ} أَيْ: تَعَاطِيهِ فِسْقٌ وَغَيٌّ وَضَلَالٌ وَجَهَالَةٌ وَشِرْكٌ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا تَرَدَّدُوا فِي أُمُورِهِمْ أَنْ يَسْتَخِيرُوهُ بِأَنْ يَعْبُدُوهُ، ثُمَّ يَسْأَلُوهُ الخيَرَة فِي الْأَمْرِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا (3) الِاسْتِخَارَةَ (4) كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَقُولُ: "إِذَا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أسْتَخِيركَ بعلمكَ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ، وأسألُكَ مِنْ فَضْلك الْعَظِيمِ؛ فَإِنَّكَ تَقْدِر وَلَا أقْدِر، وتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَم، وَأَنْتَ عَلام الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنَّ كنتَ تَعْلَمُ (5) هَذَا الْأَمْرَ -وَيُسَمِّيهِ بِاسْمِهِ-خَيْرًا لِي فِي دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أَمْرِي، فاقدُرْهُ لِي ويَسِّره لِي (6) وَبَارِكْ لِي فِيهِ، اللَّهُمَّ إِنْ كنتَ تَعْلَمْهُ شَرًّا لِي (7) فِي دِينِي ومَعاشي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، فاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاصْرِفْهُ عنِّي، واقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ رَضِّني بِهِ". لَفْظُ أَحْمَدَ. (8)
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي الْمُوَالِي.
قَوْلُهُ: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي: يَئِسُوا أَنْ يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ..
وَكَذَا رُوي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، والسّدِّي ومُقاتِل بْنِ حَيَّان. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَرِدُ (9) الْحَدِيثُ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ المُصَلُّون فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بالتَّحْرِيش (10) بَيْنَهُمْ".
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَئِسُوا مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُسْلِمِينَ، بِمَا تَمَيَّزَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشِّرْكِ وَأَهْلِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصْبِرُوا وَيَثْبُتُوا فِي مُخَالَفَةِ الْكُفَّارِ، وَلَا يَخَافُوا أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، فَقَالَ: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} أَيْ: لَا تَخَافُوا مِنْهُمْ فِي مُخَالَفَتِكُمْ إِيَّاهُمْ وَاخْشَوْنِي، أَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَأُبِيدَهُمْ وَأُظْفِرْكُمْ بِهِمْ، وَأَشِفِ صُدُورَكُمْ مِنْهُمْ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ر، وفي هـ: "إلى قوله".
(3) في د: "يعلمنا دعاء".
(4) في د: "الاستخارة في الأمور".
(5) في د: "تعلم أن".
(6) في أ: "ثم".
(7) في د: "تعلم أنه شر".
(8) المسند (3/344) وصحيح البخاري برقم (1162) وسنن أبي داود برقم (1538) وسنن الترمذي برقم (480) وسنن النسائي (6/80) وسنن ابن ماجة برقم (1383) .
(9) في ر: "يورد"
(10) في د: "التحريش".

الصفحة 25