كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)
وَاسْتَثْنَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ صَيْدَ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مِمَّا يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤُهُ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فَقُلْتُ: مَا بَالُ الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْأَحْمَرِ (1) ؟ فَقَالَ: "الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ" (2) وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ، ثُمَّ قَالَ: "مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلَابِ، اقْتُلُوا (3) مِنْهَا كُلَّ أَسْوَدٍ بَهِيم". (4)
وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي يُصْطَادُ بِهِنَّ: جَوَارِحَ، مِنَ الْجُرْحِ، وَهُوَ: الْكَسْبُ. كَمَا تَقُولُ (5) الْعَرَبُ: فُلَانٌ جَرح أَهْلَهُ خَيْرًا، أَيْ: كَسَبَهُمْ خَيْرًا. وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ لَا جَارِحَ لَهُ، أَيْ: لَا كَاسِبَ لَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الْأَنْعَامِ: 60] أَيْ: مَا كَسَبْتُمْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَلْمَى أَمِّ رَافِعٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بِقَتْلِ الْكِلَابِ، فَقُتِلَتْ، فَجَاءَ النَّاسُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ (6) بِقَتْلِهَا؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} الْآيَةَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ كَلْبَهُ وسَمَّى، فَأَمْسَكَ عَلَيْهِ، فَلْيَأْكُلْ مَا لَمْ يَأْكُلْ ".
وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَأْذِنَ (7) عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ: قَدْ أَذِنَّا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ كُلَّ كَلْبٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَتَلْتُ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا، فَتَرَكْتُهُ رَحْمَةً لَهَا، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ فَأَمَرَنِي، فَرَجَعَتْ إِلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْتُهُ، فَجَاءُوا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أبَان بْنِ صَالِحٍ، بِهِ. وَقَالَ: صَحِيحٌ ولم يخرجاه. (8)
__________
(1) في أ: "الأصفر".
(2) صحيح مسلم برقم (510) .
(3) في أ: "وقالوا".
(4) صحيح مسلم برقم (1573) وسنن أبي داود برقم (74) وسنن النسائي (1/177) وسنن ابن ماجة برقم (365) .
(5) في أ: "يقول".
(6) في د: "أمر".
(7) في ر: "يستأذن عليه".
(8) ورواه الطبري في تفسيره (9/545) من طريق زيد بن الحباب به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/326) من طريق موسى بن عبيدة به. قال الهيثمي في المجمع (4/42) : "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت: وقد توبع: تابعه محمد بن إسحاق. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/235) ، والحاكم في المستدرك (2/311) من طريق معلى بن منصور، عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق به مختصرا.
الصفحة 33