كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

نُطْفَةٍ، وَصَحَّ هَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ (1) خَلَقْنَا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم.
__________
(1) في ك، م، أ: "في".
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }
قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا [مَنَعَكَ] (1) أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} لَا هَاهُنَا زَائِدَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ الْجَحْدِ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
مَا إِنْ رأيتُ وَلَا سمعتُ بِمِثْلِهِ
فَأَدْخَلَ "إِنْ" وَهِيَ لِلنَّفْيِ، عَلَى "مَا" النَّافِيَةِ؛ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ، قَالُوا: وَكَذَلِكَ هَاهُنَا: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} مَعَ تَقَدُّمِ قَوْلِهِ: {لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}
حَكَاهُمَا ابْنُ جَرِيرٍ (2) وَرَدَّهُمَا، وَاخْتَارَ أَنَّ "مَنَعَكَ" تَضَمَّنَ مَعْنَى فِعْلٍ آخَرَ تَقْدِيرُهُ: مَا أَحْوَجَكَ وَأَلْزَمَكَ وَاضْطَرَّكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ حَسَنٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} مِنَ الْعُذْرِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنَ الذَّنْبِ، كَأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الطَّاعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ الْفَاضِلُ بِالسُّجُودِ لِلْمَفْضُولِ، يَعْنِي لَعَنَهُ اللَّهُ: وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِالسُّجُودِ لَهُ؟ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ، بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ، وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِمَّا خَلَقْتَهُ مِنْهُ، وَهُوَ الطِّينُ، فَنَظَرَ اللَّعِينُ إِلَى أَصْلِ الْعُنْصُرِ، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى التَّشْرِيفِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَقَاسَ قِيَاسًا فَاسِدًا فِي مُقَابَلَةِ نَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:72] فَشَذَّ مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ بتَرْك السُّجُودِ؛ فَلِهَذَا (3) أَبْلَسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، أَيْ: أَيِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ، فَأَخْطَأَ قَبَّحه اللَّهُ فِي قِيَاسِهِ وَدَعْوَاهُ أَنَّ النَّارَ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّينَ مِنْ شَأْنِهِ الرَّزَانَةُ وَالْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ وَالتَّثَبُّتُ، وَالطِّينُ مَحَلُّ النَّبَاتِ وَالنُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ. وَالنَّارُ مِنْ شَأْنِهَا الْإِحْرَاقُ وَالطَّيْشُ وَالسُّرْعَةُ؛ وَلِهَذَا خَانَ إِبْلِيسَ عُنْصُرُهُ، وَنَفَعَ آدَمَ عُنْصُرُهُ فِي الرُّجُوعِ وَالْإِنَابَةِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَالِاعْتِرَافِ وَطَلَبِ التَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَةِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خُلِقَت الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلقَ إِبْلِيسُ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ" هَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (4) .
وَقَالَ ابْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، حدثنا نُعَيم ابن حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ [مَارِجٍ مِنْ] (5) نَارٍ، وَخُلِقَ آدم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/324) .
(3) في م: "ولهذا".
(4) صحيح مسلم برقم (2996) .
(5) زيادة من أ.

الصفحة 392