كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

أَيْ: أَمَرَكُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي عِبَادَتِهِ فِي مَحَالِّهَا، وَهِيَ مُتَابَعَةُ الْمُرْسَلِينَ الْمُؤَيَّدِينَ بِالْمُعْجِزَاتِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ [تَعَالَى] (1) وَمَا جَاءُوا بِهِ [عَنْهُ] (2) مِنَ الشَّرَائِعِ، وَبِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَتَقَبَّلُ الْعَمَلَ حَتَّى يَجْمَعَ هَذَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: أَنْ يَكُونَ صَوَابًا مُوَافِقًا لِلشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ خَالِصًا مِنَ الشِّرْكِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون. [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ] (3) الضَّلالَة} (4) -اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى [قَوْلِهِ تَعَالَى] {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَمَا بَدَأَكُمْ فِي الدُّنْيَا، كَذَلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قَالَ: بَدَأَ فَخَلَقَهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا شَيْئًا، ثُمَّ ذَهَبُوا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلًا كَذَلِكَ يُعِيدُكُمْ آخِرًا.
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، وَأَيَّدَهُ بِمَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَشُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ (5) إِلَى اللَّهِ حُفَاة عُرَاة غُرْلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 104] .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ -أَيْضًا -مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ بِهِ. (6)
وَقَالَ وقَاء بْنُ إِيَاسٍ أَبُو يَزِيدَ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} قَالَ: يُبْعَثُ الْمُسْلِمُ مُسْلِمًا، وَالْكَافِرُ كَافِرًا.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} رُدُّوا إِلَى عِلْمِهِ فِيهِمْ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} كَمَّا كَتَبَ عَلَيْكُمْ تَكُونُونَ -وَفِي رِوَايَةٍ: كَمَا كُنْتُمْ تَكُونُونَ عَلَيْهِ تَكُونُونَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} مَنِ ابْتَدَأَ اللَّهُ خَلْقَهُ عَلَى الشَّقَاوَةِ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ، وَإِنْ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، كَمَا أَنَّ إِبْلِيسَ عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى مَا ابْتُدِئَ عَلَيْهِ خَلْقُهُ. وَمَنِ ابتُدئ خَلْقُهُ عَلَى السَّعَادَةِ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عَمِلَ بِأَعْمَالِ أَهَّلِ الشَّقَاءِ، كَمَا أَنَّ السَّحَرَةَ عَمِلَتْ (7) بِأَعْمَالِ أَهْلِ الشَّقَاءِ، ثُمَّ صَارُوا إِلَى ما ابتدئوا عليه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ك.
(3) زيادة من ك، أوفي هـ: "إلى قوله".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "محشورون".
(6) تفسير الطبري (12/386) وصحيح البخاري برقم (4625) وصحيح مسلم برقم (2860) .
(7) في أ: "عملوا".

الصفحة 403