كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)
بِذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُبِحْ ذَبَائِحَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ، بَلْ وَلَا يَتَوَقَّفُونَ فِيمَا يَأْكُلُونَهُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى ذَكَاةٍ، بَلْ يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَمَنْ شَاكَلَهُمْ مِنَ السَّامِرَةِ وَالصَّابِئَةِ، وَمَنْ تَمَسّك بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْعُلَمَاءِ، وَنَصَارَى الْعَرَبِ كَبَنِي تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
[وَ] (1) قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ (2) مُحَمَّدِ بْنِ عَبِيدة قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَأْكُلُوا ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ؛ لِأَنَّهُمْ (3) إِنَّمَا يَتَمَسَّكُونَ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ.
وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ؛ أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَرَيَانِ بَأْسًا بِذَبِيحَةِ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ.
وَأَمَّا الْمَجُوسُ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ تَبَعًا وَإِلْحَاقًا لِأَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ (4) لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ الْكَلْبِيِّ، أَحَدِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَبُو ثَوْرٍ كَاسْمِهِ! يَعْنِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِعُمُومِ حَدِيثٍ رُوِيَ مُرْسَلًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "سُنوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ"، (5) وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجوس هَجَر (6) وَلَوْ سُلِّمَ صِحَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَعُمُومُهُ مَخْصُوصٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فَدَلَّ بِمَفْهُومِهِ -مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ-عَلَى أَنَّ طَعَامَ مَنْ عَدَاهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ (7) لَا يَحِلُّ (8)
وَقَوْلُهُ: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} أَيْ: وَيَحِلُّ لَكُمْ أَنَّ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا إِخْبَارًا عَنِ الْحُكْمِ عِنْدَهُمْ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الْأَكْلِ مِنْ كُلِّ طَعَامٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى، أَيْ: وَلَكُمْ أَنْ تُطْعِمُوهُمْ مِنْ ذَبَائِحِكُمْ كَمَا أَكَلْتُمْ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ. وَهَذَا مِنْ بَابِ الْمُكَافَأَةِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُجَازَاةِ، كَمَا أَلْبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبَهُ لِعَبْدِ الله بن أبيّ بن سَلُولَ حِينَ مَاتَ وَدَفَنَهُ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ كَسَا الْعَبَّاسَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ثَوْبَهُ، فَجَازَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِذَلِكَ، فَأَمَّا (9) الْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ: "لَا تَصْحَبْ إِلَّا مُؤْمِنا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ" (10) فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر، أ: "بن".
(3) في ر، أ: "فإنهم".
(4) في أ "فإنه".
(5) رواه مالك في الموطأ (1/278) ومن طريقة الشافعي في السنن (1183) والبيهقي في السنن الكبرى (9/189) عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أَشْهَدُ لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ومحمد بن علي لم يسمع من عمر، فهو منقطع.
(6) صحيح البخاري برقم (3156) .
(7) في أ: "الأوثان".
(8) في د: "طعام غير أهل الكتاب لا يحل".
(9) في أ: "وأما".
(10) رواه أبو دواد في السنن برقم (4832) وابن ماجة في السنن برقم (2395) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
الصفحة 41