كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)
مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. (1)
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ، فِي صِفَةِ وَضَوْءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ. (3)
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ دَلَالَةٌ لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ تَكْمِيلِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، لَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ الْبَيَانِ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبْعِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مِقْدَارُ النَّاصِيَةِ.
وَذَهَبَ أَصْحَابُنَا إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَسْحٍ، لَا يَتَقَدَّرُ ذَلِكَ بحدٍّ، بَلْ لَوْ مَسَحَ بَعْضَ شَعْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ.
وَاحْتَجَّ الْفَرِيقَانِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَ: "هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ " فَأَتَيْتُهُ بِمِطْهَرَةٍ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمُّ الْجُبَّةِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْجُبَّةِ وَأَلْقَى الْجُبَّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ (4) فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفَّيْهِ ... وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ، وَهُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ. (5)
فَقَالَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: إِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ لِأَنَّهُ كَمَّلَ مَسْحَ بَقِيَّةِ الرَّأْسِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْمَوْقِعِ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى الْخُفَّيْنِ، فَهَذَا (6) أَوْلَى، وَلَيْسَ لَكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَسْحِ النَّاصِيَةِ أَوْ بَعْضِ الرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ تَكْمِيلٍ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ: هَلْ يُسْتَحَبُّ تَكْرَارُ مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثًا، كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ إِنَّمَا (7) يُسْتَحَبُّ مَسْحَةٌ وَاحِدَةٌ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ تَابَعَهُ، عَلَى قَوْلَيْنِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ، عَنْ حُمْران بْنِ أَبَانٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ تَوَضَّأَ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ ثَلَاثًا فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ مَضْمَضَ (8) وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلَاثًا، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا، ثُمَّ الْيُسْرَى ثَلَاثًا مِثْلَ ذَلِكَ (9) ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ تَوَضَّأ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحدِّث فِيْهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ ما تقدم من ذنبه ".
__________
(1) صحيح البخاري برقم (185، 186) وصحيح مسلم برقم (235) .
(2) في أ: "وضوء النبي".
(3) حديث علي رواه أبو دواد في سننه برقم (111) وكذا حديث المقدام برقم (121) وحديث معاوية برقم (124) .
(4) في ر: "منكبه".
(5) صحيح مسلم برقم (274) .
(6) في أ: "وهذا".
(7) في أ: "وإنما".
(8) في أ: "تمضمض".
(9) في أ: "ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين".
الصفحة 50