كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ} أَيْ: مِمَّنْ لَهُمْ (1) مَهَابَةٌ وَمَوْضِعٌ مِنَ النَّاسِ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمَا "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ" وَ "كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا"، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَعَطِيَّةُ، والسُّدِّي، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، وَالْخَلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَا {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ: مَتَى تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ وَاتَّبَعْتُمْ أَمْرَهُ، وَوَافَقْتُمْ رَسُولَهُ، نَصَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ وَأَيَّدَكُمْ وَظَفَّرَكُمْ بِهِمْ، وَدَخَلْتُمُ الْبَلْدَةَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ لَكُمْ. فَلَمْ يَنْفَعْ ذَاكَ فِيهِمْ شَيْئًا. {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون} وَهَذَا نُكُولٌ مِنْهُمْ عَنِ الْجِهَادِ، وَمُخَالَفَةٌ لِرَسُولِهِمْ (2) وَتَخَلُّفٌ عَنْ مُقَاتَلَةِ (3) الْأَعْدَاءِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمَّا نَكَلُوا عَلَى الْجِهَادِ وَعَزَمُوا عَلَى الِانْصِرَافِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بِلَادِهِمْ، سَجَدَ مُوسَى وَهَارُونُ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قُدام مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِعْظَامًا لِمَا هَمُّوا بِهِ، وشَق "يُوشَعُ بْنُ نُونٍ" وَ "كَالِبُ بْنُ يُوفِنَا" ثِيَابَهُمَا وَلَامَا قَوْمَهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ رَجَمُوهُمَا. وَجَرَى أَمْرٌ عَظِيمٌ وَخَطَرٌ جَلِيلٌ.
وَمَا أَحْسَنَ مَا أَجَابَ بِهِ الصَّحَابَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (4) يَوْمَ بَدْرٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَشَارَهُمْ فِي قِتَالِ النَّفِيرِ، الَّذِينَ جَاءُوا لِمَنْعِ العِير الَّذِي كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا فَاتَ اقْتِنَاصُ الْعِيرِ، وَاقْتَرَبَ مِنْهُمُ النَّفِيرُ، وَهَمَّ فِي جَمْعٍ مَا بَيْنَ التِّسْعِمِائَةِ إِلَى الْأَلْفِ، فِي العُدة (5) والبَيْض واليَلب، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَحْسَنَ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مَنْ تَكَلَّمَ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "أَشِيرُوا عليَّ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ". وَمَا يَقُولُ ذَلِكَ إِلَّا لِيَسْتَعْلِمَ مَا عِنْدَ الْأَنْصَارِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُمْهُورَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] (6) كَأَنَّكَ تُعرض بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَوَالَّذِي (7) بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعرضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فخُضْتَه لخُضناه مَعَكَ، وَمَا تخلَّف مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَه أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لصُبُر فِي الْحَرْبِ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ، لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ (8) بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ، ونَشَّطه (9) ذَلِكَ. (10)
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويَه: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لما سَارَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ عُمَرُ، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إِيَّاكُمْ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالُوا: إذًا لَا نَقُولُ لَهُ كَمَا قَالَتْ (11) بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ ضَرَبْت أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْك الغمَاد لَاتَّبَعْنَاكَ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ عُبَيْدَةَ (12) بْنِ حُمَيْدٍ، الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ خَالِدِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ حُمَيْدٍ بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ عن أبي يعلى،
__________
(1) في ر: "لهما".
(2) في ر: "لرسوله".
(3) في أ: "مقابلة".
(4) في أ: "رضوان الله عليهم أجمعين".
(5) في أ:" العدد".
(6) زيادة من أ.
(7) في ر: "والذي".
(8) في أ: "ما يقر".
(9) في ر، أ: "وبسطه".
(10) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/615) .
(11) في أ: "كما قال".
(12) في أ: "عبدة".
الصفحة 77