كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَوَثَبَ فِي السَّمَاءِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ، فَضَرَبَ "عَوْجًا" فَأَصَابَ كَعْبَهُ، فَسَقَطَ مَيِّتًا، وَكَانَ جسْرًا لِلنَّاسِ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ. (1)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} تَسْلِيَةً لِمُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْهُمْ، أَيْ: لَا تَتَأَسَّفْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فَمَهْمَا (2) حَكَمْتَ عَلَيْهِمْ، بِهِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْقِصَّةُ تَضَمَّنَتْ تَقْرِيعَ الْيَهُودِ وَبَيَانَ فَضَائِحِهِمْ، وَمُخَالَفَتِهِمْ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَنُكُولِهِمْ عَنْ طَاعَتِهِمَا، فِيمَا (3) أَمَرَهُمْ (4) بِهِ مِنَ الْجِهَادِ، فَضَعُفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنْ مُصَابَرَةِ الْأَعْدَاءِ وَمُجَالَدَتِهِمْ، وَمُقَاتَلَتِهِمْ، مَعَ أَنَّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَلِيمَهُ وَصَفِيَّهُ مِنْ خَلْقِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَهُوَ يَعِدُهُمْ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَعْدَائِهِمْ، هَذَا وَقَدْ شَاهَدُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ بِعَدُوِّهِمْ فِرْعَوْنَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْغَرَقِ لَهُ وَلِجُنُودِهِ فِي الْيَمِّ، وَهُمْ يَنْظُرُونَ لتَقَرَّ بِهِ أَعْيُنُهُمْ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قَدَمٍ، ثُمَّ يَنْكِلُونَ عَنْ مُقَاتَلَةِ (5) أَهْلِ بَلَدٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لَا تُوَازِي عُشْرَ الْمِعْشَارِ فِي عِدَّةِ أَهْلِهَا وعُدَدهم، فَظَهَرَتْ (6) قَبَائِحُ صَنِيعِهِمْ لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَافْتَضَحُوا فَضِيحَةً لَا يُغَطِّيهَا اللَّيْلُ، وَلَا يَسْتُرُهَا الذَّيْلُ، هَذَا وَهُمْ فِي (7) جَهْلِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي غَيِّهم يَتَرَدَّدُونَ، وَهُمُ البُغَضَاء إِلَى اللَّهِ وَأَعْدَاؤُهُ، وَيَقُولُونَ مَعَ ذَلِكَ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [الْمَائِدَةِ: 18] فَقَبَّحَ اللَّهُ وُجُوهَهُمُ الَّتِي مَسَخَ مِنْهَا الْخَنَازِيرَ وَالْقُرُودَ، وَأَلْزَمَهُمْ لَعْنَةً تَصْحَبُهُمْ إِلَى النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، وَيَقْضِي لَهُمْ فِيهَا بِتَأْبِيدِ الْخُلُودِ، وَقَدْ فَعَلَ وَلَهُ الْحَمْدُ مِنْ (8) جَمِيعِ الْوُجُودِ.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) }
يَقُولُ تَعَالَى مُبَيِّنًا وَخِيمَ عَاقِبَةِ الْبَغْيِ وَالْحَسَدِ وَالظُّلْمِ فِي خَبَرِ ابْنَيْ (9) آدَمَ لِصُلْبِهِ -فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ-وَهُمَا هَابِيلُ وَقَابِيلُ كَيْفَ عَدَا أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَقَتَلَهُ بَغْيًا عَلَيْهِ وَحَسَدًا لَهُ، فِيمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وتَقَبّل الْقُرْبَانِ الَّذِي أَخْلَصَ فِيهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَفَازَ الْمَقْتُولُ بِوَضْعِ الْآثَامِ وَالدُّخُولِ إِلَى
__________
(1) حديث عوج بن عنق حديث طويل باطل، ولا يصح ما ذكر عن أوصافه، وقد تكلم عليه الإمام ابن القيم- رحمه الله- في المنار المنيف (ص76) بما يكفي.
(2) في أ: "فيما".
(3) في ر:"في الذي".
(4) في أ: "أمرهما".
(5) في أ: "معاملة".
(6) في ر: "وظهرت".
(7) في أ: "من".
(8) في أ: "في".
(9) في ر: "بني".

الصفحة 81