كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 3)

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَابِيلَ عُوجل بِالْعُقُوبَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدُ (1) بْنُ جَبْر أَنَّهُ عُلِّقَتْ سَاقُهُ بِفَخِذِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ، وَجَعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلَى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ عُقُوبَةً لَهُ وَتَنْكِيلًا بِهِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ (2) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ] (3) قَالَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجَّل اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخر لِصَاحِبِهِ فِي الْآخِرَةِ، مِنَ البَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ". (4) وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِ قَابِيلَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون.
__________
(1) في ر: "ابن مجاهد".
(2) في هـ: "أن"، والمثبت من أ.
(3) زيادة من ر.
(4) رواه أبو داود في سننه برقم (4902) وابن ماجة في سننه برقم (4211) من حديث أبي بكرة، رضي الله عنه.
{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
يَقُولُ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ} قَتْل ابْنِ آدَمَ أَخَاهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا: {كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أَيْ: شَرَعْنَا لَهُمْ وَأَعْلَمْنَاهُمْ {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أَيْ: وَمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ قِصَاصٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ، وَاسْتَحَلَّ قَتْلَهَا بِلَا سَبَبٍ وَلَا جِنَايَةَ، فَكَأَنَّمَا قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُ بَيْنَ نَفْسٍ وَنَفْسٍ، {وَمَنْ أَحْيَاهَا} أَيْ: حَرَّمَ قَتَلَهَا وَاعْتَقَدَ ذَلِكَ، فَقَدْ سَلِمَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .
وَقَالَ الْأَعْمَشُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُثْمَانَ يَوْمَ الدَّارِ فَقُلْتُ: جِئْتُ لِأَنْصُرَكَ وَقَدْ طَابَ الضَّرْبُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَيَسُرُّكَ أَنْ تَقْتُل (1) النَّاسَ جَمِيعًا وَإِيَّايَ مَعَهُمْ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ فَإِنَّكَ إِنْ قَتَلْتَ رَجُلًا وَاحِدًا فَكَأَنَّمَا قَتَلْتَ النَّاسَ جَمِيعًا، فانْصَرِفْ مَأْذُونًا لَكَ، مَأْجُورًا غَيْرَ مَأْزُورٍ. قَالَ: فَانْصَرَفْتُ وَلَمْ أُقَاتِلْ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} وَإِحْيَاؤُهَا: أَلَّا يَقْتُلَ نَفْسًا حَرّمها اللَّهُ، فَذَلِكَ الَّذِي أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، يَعْنِي: أَنَّهُ مَنْ حَرّم قَتْلَهَا إِلَّا بحق، حَيِي الناس منه
__________
(1) في أ: "يقتل".

الصفحة 92