كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 4)
فَلَمْ يَبِتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَأَذِنَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ "الْأَنْفَالَ" يَذْكُرُ نِعَمَهُ (1) عَلَيْهِ وَبَلَاءَهُ عِنْدَهُ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} وَأَنْزَلَ [اللَّهُ] (2) فِي قَوْلِهِمْ: "تَرَبَّصُوا بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، حَتَّى يَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ"، {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطَّوْرِ: 30] وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يُسَمَّى "يَوْمَ الزَّحْمَةِ" (3) لِلَّذِي اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الرَّأْيِ (4)
وَعَنِ السُّدِّيّ نَحْوُ هَذَا السِّيَاقِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي إِرَادَتِهِمْ إِخْرَاجَهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا} [الْإِسْرَاءِ: 76] .
وَكَذَا رَوَى العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وعُرْوة بْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُوسَى بْنِ عُقْبَة، وقَتَادَةَ، ومِقْسَم، وَغَيْرِ وَاحِدٍ، نَحْوُ ذَلِكَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُ أَمْرَ اللَّهِ، حَتَّى إِذَا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ فَمَكَرَتْ بِهِ، وَأَرَادُوا بِهِ مَا أَرَادُوا، أَتَاهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَمَرَهُ أَلَّا يَبِيتَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي كَانَ يَبِيتُ فِيهِ (5) فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَبِيتَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَنْ يَتَسَجَّى ببُرد لَهُ أَخْضَرَ، فَفَعَلَ. ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ، وخَرَج مَعَهُ بِحَفْنَةٍ مِنْ تُرَابٍ، فَجَعَلَ يذرها على رؤوسهم، وَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [يس: 1-9] .
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مَا يُؤَكِّدُ هَذَا (6)
وَقَدْ رَوَى [أَبُو حَاتِمِ] (7) ابْنُ حِبَّان فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلَتْ فاطمةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَبْكِي، فَقَالَ: "مَا يُبْكِيكِ يَا بُنَيَّة؟ " قَالَتْ: يَا أَبَتِ، [وَ] (8) مَا لِي لَا أَبْكِي، وَهَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الحجْر يَتَعَاقَدُونَ بِاللَّاتِ والعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَوْكَ لَقَامُوا إِلَيْكَ فَيَقْتُلُونَكَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ. فَقَالَ: "يَا بُنَيَّةُ، ائْتِنِي بوَضُوء". فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: إِنَّمَا هُوَ ذَا (9) فطأطؤوا رؤوسهم، وَسَقَطَتْ أَذْقَانُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا أَبْصَارَهُمْ. فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ". فَمَا أَصَابَ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاة مِنْ حَصَيَاتِهِ إِلَّا قُتل يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا.
ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ولا أعرف له علة (10)
__________
(1) في ك، م: "نعمته".
(2) زيادة من د، ك، أ.
(3) في د، ك، م، أ: "الرحمة".
(4) رواه الطبري في تفسيره (13/494) من طريق ابن إسحاق به.
(5) في د، ك، م: "به".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/469، 470) .
(7) زيادة من ك، م.
(8) زيادة من د.
(9) في د، ك، م: "ها هو ذا".
(10) صحيح ابن حبان برقم (1691) "موارد" والمستدرك (3/157) .
الصفحة 45