كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 4)

كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ" (1)
وَقَوْلُهُ: {فَإِنِ انْتَهَوْا} أَيْ: بِقِتَالِكُمْ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ، فَكَفُّوا عَنْهُ (2) وَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا (3) بَوَاطِنَهُمْ، {فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التَّوْبَةِ:5] ،وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التَّوْبَةِ:11] .
وَقَالَ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} [الْبَقَرَةِ:193] .وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُسَامَةَ -لَمَّا عَلَا ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالسَّيْفِ، فَقَالَ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -فَقَالَ لِأُسَامَةَ: "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا. قَالَ: "هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ؟ "، وَجَعَلَ يَقُولُ وَيُكَرِّرُ عَلَيْهِ: "مَنْ لَكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ " قَالَ أُسَامَةُ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ إِلَّا ذَلِكَ الْيَوْمَ (5) (6)
وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أَيْ: وَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى خِلَافِكُمْ وَمُحَارَبَتِكُمْ، {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} سَيِّدُكُمْ وَنَاصِرُكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبَانٌ الْعَطَّارُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَة: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُرْوَةُ: "سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إِلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ مُخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَسَأُخْبِرُكَ (7) بِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. كَانَ مِنْ شَأْنِ مُخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُ النُّبُوَّةَ، فَنِعْم النَّبِيُّ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ، وَنِعْمَ الْعَشِيرَةُ، فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا، وَعَرَّفَنَا وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَحْيَانَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَمَاتَنَا عَلَيْهَا، وَبَعَثَنَا عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَمَّا دَعَا قَوْمَهُ لِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْهُدَى وَالنُّورِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْعُدُوا مِنْهُ أَوَّلَ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، وَكَادُوا يَسْمَعُونَ مِنْهُ، حَتَّى ذَكَرَ طَوَاغِيتَهُمْ، وَقَدِمَ نَاسٌ مِنَ الطَّائِفِ مِنْ قُرَيْشٍ، لَهُمْ أَمْوَالٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِ وَكَرِهُوا مَا قَالَ، وَأَغْرَوْا بِهِ مَنْ أَطَاعَهُمْ، فَانْصَفَقَ عَنْهُ عَامَّةُ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ إِلَّا مَنْ حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، وَهُمْ قَلِيلٌ. فَمَكَثَ بِذَلِكَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بِأَنْ يَفْتِنُوا مَنِ اتَّبَعَهُ عَنْ دِينِ اللَّهِ مِنْ أَبْنَائِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، فَكَانَتْ فِتْنَةٌ شَدِيدَةُ الزِّلْزَالِ، فافتُتِن مَنِ افْتَتَنَ، وَعَصَمَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا فُعِل ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ، أَمَرَهُمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904) .
(2) في ك، م: "عنهم".
(3) في ك، م: "إن كنتم لا تعلمون".
(4) في ك، م: "تعملون".
(5) في ك، م: "يومئذ".
(6) صحيح البخاري برقم (4269) وصحيح مسلم برقم (96) .
(7) في م: "وسأحدثك".

الصفحة 57