كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 4)
تُعْرَفُ (1) قُرَيْشٌ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَنَادَى مُنَادٍ: إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَنَ الْأَسْوَدَ وَالْأَبْيَضَ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا -نَاسًا سَمَّاهُمْ-فأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ [فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] } (2) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَصْبِرُ وَلَا نُعَاقِبُ" (3) .
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ لَهَا أَمْثَالٌ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعَدْلِ وَالنَّدْبِ إِلَى الْفَضْلِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ثُمَّ قَالَ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشُّورَى: 40] . وَقَالَ {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ثُمَّ قَالَ {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [الْمَائِدَةِ: 45] ، وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} ثُمَّ قَالَ {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}
وَقَوْلُهُ: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُنَالُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أَيْ: عَلَى مَنْ خَالَفَكَ، لَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدَّرَ ذَلِكَ، {وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ} أَيْ: غَمٍّ {مِمَّا يَمْكُرُونَ} أَيْ: مِمَّا يُجْهِدُونَ [أَنْفُسَهُمْ] (4) فِي عَدَاوَتِكَ وَإِيصَالِ الشَّرِّ إِلَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ، وَمُؤَيِّدُكَ، وَمُظْهِرُكَ وَمُظْفِرُكَ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أَيْ: مَعَهُمْ بِتَأْيِيدِهِ وَنَصْرِهِ وَمَعُونَتِهِ وَهَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ، كَقَوْلِهِ: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الْأَنْفَالِ: 12] ، وَقَوْلِهِ لِمُوسَى وَهَارُونَ: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصِّدِّيقِ وَهُمَا فِي الْغَارِ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التَّوْبَةِ: 40] وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْعَامَّةُ فَبِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْعِلْمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الْحَدِيدِ: 4] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] } [يُونُسَ: 61] . (5)
وَمَعْنَى: {الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ: تَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ، {وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} أَيْ: فَعَلُوا الطَّاعَاتِ، فَهَؤُلَاءِ اللَّهُ يَحْفَظُهُمْ وَيَكْلَؤُهُمْ، وَيَنْصُرُهُمْ وَيُؤَيِّدُهُمْ، وَيُظْفِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَمُخَالِفِيهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ، حدثنا
__________
(1) في ت، ف، أ: "يعرف".
(2) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) زوائد المسند (5/135) .
(4) زيادة من ت، ف، أ.
(5) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".
الصفحة 615
618