كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".
قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنَا هَذَا فَخُذْ لِنَفْسِكَ، فَاسْأَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ مَلَكًا يُصَدِّقُكَ بِمَا تَقُولُ (1) وَيُرَاجِعُنَا عَنْكَ، وَتَسْأَلُهُ فَيَجْعَلَ لَكَ جِنَانًا، وَكُنُوزًا وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَيُغْنِيَكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ تَبْتَغِي، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ، وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا نَلْتَمِسُهُ، حَتَّى نَعْرِفَ (2) فَضْلَ مَنْزِلَتِكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنْ كُنْتَ رَسُولًا كَمَا تَزْعُمُ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، مَا أَنَا بِالَّذِي يَسْأَلُ رَبَّهُ هَذَا، وَمَا بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِهَذَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ".
قَالُوا: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ، كَمَا زَعَمْتَ أَنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ ذَلِكَ، فَإِنَّا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلَ.
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ بِكُمْ ذَلِكَ".
فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَمَا (3) عَلِمَ رَبُّكَ أَنَّا سَنَجْلِسُ مَعَكَ، وَنَسْأَلُكَ عَمَّا سَأَلْنَاكَ عَنْهُ، وَنَطْلُبُ مِنْكَ مَا نَطْلُبُ فَيُقَدِّمَ إِلَيْكَ وَيُعَلِّمَكَ مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ، وَيُخْبِرَكَ مَا هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا، إِذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْكَ مَا جِئْتَنَا بِهِ، فَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يُعَلِّمُكَ هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ، يُقَالُ لَهُ: الرَّحْمَنُ، وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرَّحْمَنِ أَبَدًا، فَقَدْ أَعْذَرْنَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بِنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أَوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ قَائِلُهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَ (4) بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابن عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ، ابْنُ عَاتِكَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا، فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ، فَلَمْ (5) تَفْعَلْ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، فَوَاللَّهِ لَا أُؤْمِنُ بِكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا، ثُمَّ تَرْقَى فِيهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا، وَتَأْتِيَ مَعَكَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، مَعَكَ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، يَشْهَدُونَ أَنَّكَ كَمَا تَقُولُ. وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنِّي لَا أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا أَسِفًا لِمَا فَاتَهُ، مِمَّا كَانَ طَمَعَ فِيهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ، وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ إِيَّاهُ (6) .
وَهَكَذَا رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البَكَّائي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ سَعِيدِ ابن جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ سَوَاءً.
وَهَذَا الْمَجْلِسُ الَّذِي اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ لَهُ، لَوْ (7) عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ استرشادًا لأجيبوا
__________
(1) في ت: "يقول".
(2) في ت: "تعرف".
(3) في ت، "لما".
(4) في ف: "تأتينا".
(5) في ت: "ثم لم".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/296) .
(7) في ف: "فلو".

الصفحة 119