كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَقَوْلُهُ: (عُمْيًا) أَيْ: لَا يُبْصِرُونَ (وَبُكْمًا) يَعْنِي: لَا يَنْطِقُونَ (وَصُمًّا) : لَا يَسْمَعُونَ. وَهَذَا يَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ جَزَاءً لَهُمْ كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا بُكْمًا وَعُمْيًا وَصُمًّا عَنِ الْحَقِّ فَجُوزُوا فِي مَحْشَرِهِمْ بِذَلِكَ أَحْوَجَ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ (مَأْوَاهُمْ) أَيْ: مُنْقَلِبُهُمْ (1) وَمَصِيرُهُمْ (جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَكَنَتْ (2) . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طَفِئَتْ (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) أَيْ: لَهَبًا وَوَهَجًا وَجَمْرًا، كَمَا قَالَ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا} [النَّبَإِ: 30] .
{ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99) } .
يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ بِهِ، مِنَ الْبَعْثِ عَلَى الْعَمَى وَالْبُكْمِ وَالصَّمَمِ، جَزَاؤُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ؛ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا (بِآيَاتِنَا) أَيْ بِأَدِلَّتِنَا (3) وَحُجَجِنَا، وَاسْتَبْعَدُوا وُقُوعَ الْبَعْثِ (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا) بَالِيَةً نَخِرَةً (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) أَيْ: بَعْدَ مَا صِرْنَا إِلَى مَا صِرْنَا إِلَيْهِ مِنَ الْبِلَى وَالْهَلَاكِ، وَالتَّفَرُّقِ وَالذَّهَابِ فِي الْأَرْضِ نُعَادُ مَرَّةً ثَانِيَةً؟ فَاحْتَجَّ (4) تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، بِأَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَقُدْرَتُهُ عَلَى إِعَادَتِهِمْ أَسْهَلُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] وَقَالَ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الْأَحْقَافِ: 33] وَقَالَ {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 81، 83] .
وَقَالَ هَاهُنَا: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعِيدُ أَبْدَانَهُمْ وَيُنَشِّئُهُمْ نَشْأَةً أُخْرَى، وَيُعِيدُهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لَا رَيْبَ فِيهِ) أَيْ: جَعَلَ لِإِعَادَتِهِمْ وَإِقَامَتِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ أَجَلًا مَضْرُوبًا وَمُدَّةً مُقَدَّرَةً لَا بُدَّ مِنَ انْقِضَائِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هُودٍ: 104] .
وَقَوْلُهُ: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ) أَيْ: بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ (إِلا كُفُورًا) إِلَّا تماديًا في باطلهم وضلالهم.
__________
(1) في أ: "مقبلهم".
(2) في ت: "ستكتب".
(3) في ت: "بآياتنا".
(4) في ف: "واحتج".

الصفحة 123