كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

أَيْ: وَمَعَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمُشَاهَدَتِهِمْ لَهَا، كَفَرُوا بِهَا وَجَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، وَمَا نَجَعَتْ (1) فِيهِمْ، فَكَذَلِكَ لَوْ أَجَبْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَأَلُوا مِنْكَ (2) سَأَلُوا، وَقَالُوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الْإِسْرَاءِ: 90] إِلَى آخِرِهَا، لَمَا اسْتَجَابُوا وَلَا آمَنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، كَمَا قَالَ فِرْعَوْنُ لِمُوسَى -وَقَدْ شَاهَدَ مِنْهُ مَا شَاهَدَ مِنْ هذه الآيات-: (إِنِّي لأظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا) قِيلَ: بِمَعْنَى سَاحِرٍ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعُ الَّتِي ذَكَرَهَا هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ هِيَ الْمُرَادَةُ هَاهُنَا، وَهِيَ الْمَعْنِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [النَّمْلِ: 10 -12] . فَذَكَرَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ: الْعَصَا وَالْيَدَ، وَبَيَّنَ الْآيَاتِ الْبَاقِيَاتِ فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" وَفَصَّلَهَا.
وَقَدْ أُوتِيَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، آيَاتٍ أخرَ كَثِيرَةً، مِنْهَا ضربُه الْحَجَرَ بِالْعَصَا، وَخُرُوجُ الْأَنْهَارِ مِنْهُ، وَمِنْهَا تَظْلِيلُهُمْ بِالْغَمَامِ، وَإِنْزَالُ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا أُوتُوهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ بِلَادَ مِصْرَ، وَلَكِنْ ذَكَرَ هَاهُنَا التِّسْعَ الْآيَاتِ الَّتِي شَاهَدَهَا فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَانَتْ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فَخَالَفُوهَا وَعَانَدُوهَا كُفْرًا وَجُحُودًا. فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ [أَحْمَدُ] (3) :
حَدَّثَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَمَةَ (4) يُحَدِّثُ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسّال الْمُرَادِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (5) حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) فَقَالَ: لَا تَقُلْ لَهُ: نَبِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ لَصَارَتْ لَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ. فَسَأَلَاهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَسْحَرُوا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً -أَوْ قَالَ: لَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ -شُعْبَةُ الشَّاكُّ -وَأَنْتُمْ يَا يَهُودُ، عَلَيْكُمْ (6) خَاصَّةً أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ". فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. [قَالَ: "فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي؟ " قَالَا لِأَنَّ دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، دَعَا أَلَّا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ] (7) ، وَإِنَّا نَخْشَى إِنْ أَسْلَمْنَا أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ.
فَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ هَكَذَا التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجَّاجِ، بِهِ (8) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهُوَ حَدِيثُ مُشْكَلٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ فِي حِفْظِهِ شَيْءٌ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ التِّسْعُ الْآيَاتُ بِالْعَشْرِ الْكَلِمَاتِ، فَإِنَّهَا، وَصَايَا فِي التَّوْرَاةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بقيام الحجة على فرعون، والله أعلم.
__________
(1) في ت: "وما نجوت".
(2) في ت: "مثل".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف: "مسلم".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت: "أيكم".
(7) زيادة من ف، أ، والمسند.
(8) المسند (4/239) وسنن الترمذي برقم (3144) وسنن النسائي (7/111) وسنن ابن ماجة برقم (3705) وتفسير الطبري (15/115) .

الصفحة 125