كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

الْحَدِيثِ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خيرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَغَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (1) فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ، وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ.
فَلَمَّا وَقَعَ عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ، وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أَيْ: وَإِذَا فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أَيْ: يَبْسُطْ عَلَيْكُمْ رَحْمَةً (2) يَسْتُرُكُمْ بِهَا مِنْ قَوْمِكُمْ {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} [أَيِ] (3) الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، {مِرفَقًا} أَيْ: أَمْرًا تَرْتَفِقُونَ بِهِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا هُرابًا إِلَى الْكَهْفِ، فَأَوَوْا إِلَيْهِ، فَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وتَطَلَّبهم الْمَلِكُ فَيُقَالُ: إِنَّهُ لَمْ يَظْفَرْ بِهِمْ، وعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِ خَبَرَهُمْ. كَمَا فَعَلَ بِنَبِيِّهِ [مُحَمَّدٍ] (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبِهِ الصِّدِّيقِ، حِينَ لَجَأَ إِلَى غَارِ ثَوْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ فِي الطَّلَبِ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ مَعَ (5) أَنَّهُمْ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى جَزَعَ الصِّدِّيقِ فِي قَوْلِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ (6) لَأَبْصَرَنَا، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟ "، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التَّوْبَةِ:40] فَقِصَّةُ هَذَا الْغَارِ أَشْرَفُ وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ وَأَعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ (7) الْكَهْفِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْمَهُمْ ظَفِرُوا بِهِمْ، وَقَفُوا (8) عَلَى بَابِ الْغَارِ الَّذِي دَخَلُوهُ، فَقَالُوا: مَا كُنَّا نُرِيدُ مِنْهُمْ مَنِ الْعُقُوبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ. فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِرَدْمِ بَابِهِ عَلَيْهِمْ لِيَهْلَكُوا مَكَانَهُمْ فَفُعِلَ [لَهُمْ] (9) ذَلِكَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فِي الْكَهْفِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) } .
هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَابَ هَذَا الْكَهْفِ مِنْ نَحْوِ الشَّمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا دَخَلَتْهُ عِنْدَ طُلُوعِهَا تَزَاوَرُ عَنْهُ {ذَاتَ الْيَمِينِ} أَيْ: يَتَقَلَّصُ الْفَيْءُ يَمْنَةً (10) كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: {تَزَاوَرُ} أَيْ: تَمِيلُ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا كُلَّمَا ارْتَفَعَتْ فِي الْأُفُقِ تَقَلَّصَ شُعَاعُهَا بِارْتِفَاعِهَا حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ الزَّوَالِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} أَيْ: تَدْخُلُ إِلَى غَارِهِمْ مِنْ شِمَالِ بَابِهِ، وَهُوَ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَاهُ،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (19) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(2) في ت، ف: "رحمته".
(3) زيادة من ت، ف، أ.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت: "ثم".
(6) في أ: "قدمه".
(7) في ف، أ: "أهل".
(8) في ت، ف: "ووقفوا".
(9) زيادة من ف.
(10) في ت: "عنه"، وفي أ: "يمينه".

الصفحة 142