كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) }
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ (1) الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ مُجَالَسَةِ (2) الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَافْتَخَرُوا عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ، فَضَرَبَ لَهُمْ (3) مَثَلًا بِرَجُلَيْنِ، جَعَلَ اللَّهُ {لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} أَيْ: بُسْتَانَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ، مَحْفُوفَتَيْنِ بِالنَّخْلِ (4) الْمُحْدِقَةِ فِي جَنْبَاتِهِمَا، وَفِي خِلَالِهِمَا الزُّرُوعُ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَشْجَارِ وَالزُّرُوعِ مُثْمِرٌ مُقبلٌ فِي غَايَةِ الْجُودِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} أَيْ: خَرَجَتْ ثَمَرُهَا {وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} أَيْ: وَلَمْ تَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئًا {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا} أَيْ: وَالْأَنْهَارُ تَتَخَرِقُ فِيهِمَا هَاهُنَا وَهَاهُنَا.
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ: الْمَالُ. رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: الثِّمَارُ وَهُوَ أَظْهَرُ هَاهُنَا، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ الْأُخْرَى: "وَكَانَ لَهُ ثُمْر" بِضَمِّ الثَّاءِ وَتَسْكِينِ الْمِيمِ، فَيَكُونُ (5) جَمْعَ ثَمَرَة، كَخَشَبَة وخُشب، وَقَرَأَ آخَرُونَ: {ثَمَرٌ} بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ.
فَقَالَ -أَيْ صَاحِبُ هَاتَيْنِ [الْجَنَّتَيْنِ] (6) - {لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} أَيْ: يُجَادِلُهُ وَيُخَاصِمُهُ، يَفْتَخِرُ عَلَيْهِ وَيَتَرَأَّسُ: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا} أَيْ: أَكْثَرُ خَدَمًا وَحَشَمًا وَوَلَدًا.
قَالَ قَتَادَةُ: تِلْكَ -وَاللَّهِ-أُمْنِيَةُ الْفَاجِرِ: كَثْرَةُ الْمَالِ وَعِزَّةُ النَّفَرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أَيْ: بِكُفْرِهِ وَتَمَرُّدِهِ وَتَكَبُّرِهِ وَتَجَبُّرِهِ وَإِنْكَارِهِ الْمَعَادَ {قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} وَذَلِكَ اغْتِرَارٌ مِنْهُ، لَمَّا رَأَى فِيهَا (7) مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ الْمُطَّرِدَةِ فِي جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا، ظَنَّ أَنَّهَا لَا تَفْنَى وَلَا تَفْرَغُ وَلَا تَهْلَكُ وَلَا تُتْلَفُ (8) وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عَقْلِهِ، وَضَعْفِ يَقِينِهِ بِاللَّهِ، وَإِعْجَابِهِ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَكُفْرِهِ بِالْآخِرَةِ (9) ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أَيْ: كَائِنَةً {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} أَيْ: وَلَئِنْ كَانَ مَعَادٌ وَرَجْعَةٌ وَمَرَدٌّ إِلَى اللَّهِ، ليكونَنّ لِي هُنَاكَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا لِأَنِّي مُحظى (10) عِنْدَ رَبِّي، وَلَوْلَا كَرَامَتِي (11) عَلَيْهِ مَا أَعْطَانِي هَذَا، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فُصِّلَتْ:50] ، وَقَالَ {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا} [مَرْيَمَ:77] أَيْ: فِي الدار الآخرة، تألى على الله، عز
__________
(1) في ت، ف: "ذكره".
(2) في ت: "مجالسهم".
(3) في ت، ف، أ: "لهم ولهم".
(4) في ف، أ: "بالنخيل".
(5) في ت: "فيك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف: "فيهما".
(8) في ت: "ولايسلم".
(9) في ت: "بالأخرى".
(10) في ت، ف: "محض".
(11) في ت: "إكرامى".

الصفحة 157