كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

وَجَلَّ، وَكَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ الثِّقَةُ.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) }
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّا أَجَابَهُ صَاحِبُهُ الْمُؤْمِنُ، وَاعِظًا لَهُ وَزَاجِرًا عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالِاغْتِرَارِ: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} ؟ وَهَذَا إِنْكَارٌ وَتَعْظِيمٌ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ جُحُودِ رَبِّهِ، الَّذِي خَلَقَهُ وَابْتَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مَنْ طِينٍ وَهُوَ آدَمُ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ:280] أَيْ: كَيْفَ تجحَدُون رَبَّكُمْ، وَدَلَالَتُهُ عَلَيْكُمْ ظَاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُهَا مِنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ مَعْدُومًا ثُمَّ وُجِدَ، وَلَيْسَ وُجُودُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مُسْتَنِدًا إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ؛ لِأَنَّهُ بِمَثابَتِهِ فَعُلِمَ إِسْنَادُ (1) إِيجَادِهِ إِلَى خَالِقِهِ، وَهُوَ اللَّهُ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ وَلِذَا (2) قَالَ: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أَيْ: أَنَا لَا أَقُولُ بِمَقَالَتِكَ، بَلْ أَعْتَرِفُ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ {وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} أَيْ: بَلْ هُوَ اللَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
ثُمَّ قَالَ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} هَذَا تَحْضِيضٌ وَحَثٌّ عَلَى ذَلِكَ، أَيْ: هَلَّا إِذَا أَعْجَبَتْكَ حِينَ دَخَلْتَهَا وَنَظَرْتَ إِلَيْهَا حَمِدْتَ اللَّهَ عَلَى مَا أَنْعَمَ به عليك، وأعطاك من المال والولد مَا لَمْ يُعْطَهُ غَيْرُكَ، وَقُلْتَ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضَ السَّلَفِ: مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ مِنْ حَالِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَالِهِ، فَلْيَقُلْ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ:
حَدَّثَنَا جَرَّاح بْنُ مَخْلَد، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ زُرَارَة، عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ، فَيَقُولُ: {مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} فَيَرَى فِيهِ آفَةً دُونَ الْمَوْتِ". وَكَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} (3) .
__________
(1) في ف: "استناد".
(2) في ف: "ولهذا".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4525) من طريق الحسن بن صباح، عن عمر بن يونس به.

الصفحة 158