كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

قَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أُخْرِجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، يَعْنِي: مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ.
{إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أَيْ: مَا كَانَ لَهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ إِسَاءَةٌ، وَلَا كَانَ لَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا أَنَّهُمْ عَبَدُوا اللَّهَ (1) وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ أَكْبَرُ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} [الْمُمْتَحَنَةِ: 1] ، وَقَالَ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [الْبُرُوجِ: 8] . وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ المسلمون يرتجزون في بناء الخندق، ويقولون: لا هُمّ (2) لَولا أنتَ مَا اهتَدَينا ... وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا ...
فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا ... وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا ...
إِنَّ الألَى قَدْ بَغَوا عَلَينَا ... إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا (3)
فَيُوَافِقُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ مَعَهُمْ آخِرَ كُلِّ قَافِيَةٍ، فَإِذَا قَالُوا: "إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا"، يَقُولُ: "أَبَيْنَا"، يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أَيْ: لَوْلَا أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ قَوْمٍ بِقَوْمٍ، ويكشفُ شَرّ أُنَاسٍ عَنْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يَخْلُقُهُ وَيُقَدِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ، لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَأَهْلَكَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ.
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} وَهِيَ الْمَعَابِدُ الصِّغَارُ لِلرُّهْبَانِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَعِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَعَابِدُ الصَّابِئِينَ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: صَوَامِعُ الْمَجُوسِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: هِيَ الْبُيُوتُ الَّتِي عَلَى الطُّرُقِ.
{وَبِيَعٌ} : وَهِيَ أَوْسَعُ مِنْهَا، وَأَكْثَرُ عَابِدِينَ فِيهَا. وَهِيَ لِلنَّصَارَى أَيْضًا. قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ (4) صَخْرٍ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وخُصَيف، وَغَيْرُهُمْ.
وَحَكَى ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ. وَحَكَى السُّدِّيُّ، عَمَّنْ حَدّثه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ، وَمُجَاهِدٌ إِنَّمَا قَالَ: هِيَ الْكَنَائِسُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {وَصَلَوَاتٌ} : قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّلَوَاتُ: الْكَنَائِسُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ: إِنَّهَا كَنَائِسُ الْيَهُودِ. وَهُمْ يُسَمُّونَهَا صَلُوتا.
وَحَكَى السُّدِّيُّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَنَائِسُ النصارى.
__________
(1) في ف، أ: "وحد الله".
(2) في أ: "والله".
(3) الأبيات لعامر بن الأكوع كما في صحيح مسلم برقم (1803) .
(4) في أ: "أبو".

الصفحة 435