كتاب تفسير ابن كثير ت سلامة (اسم الجزء: 5)

"النَّجْمِ" قَالَ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى} أَلْقَى الشَّيْطَانُ عِنْدَهَا كَلِمَاتٍ حِينَ ذَكَرَ اللَّهُ الطَّوَاغِيتَ، فَقَالَ: "وَإِنَّهُنَّ لَهُنَّ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى. وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَهِيَ الَّتِي تُرْتَجَى (1) ". وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ سَجْعِ الشَّيْطَانِ وَفِتْنَتِهِ، فَوَقَعَتْ هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُشْرِكٍ بِمَكَّةَ، وَزَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، وَتَبَاشَرُوا بِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا، قَدْ رَجَعَ إِلَى دِينِهِ الْأَوَّلِ، وَدِينِ قَوْمِهِ. فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [آخِرَ النَّجْمِ] (2) ، سَجَدَ وَسَجَدَ كُلُّ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُشْرِكٍ. غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ كَانَ رَجُلًا كَبِيرًا، فَرَفَعَ عَلَى (3) كَفِّهِ تُرَابًا فَسَجَدَ عَلَيْهِ. فَعَجِبَ الْفَرِيقَانِ كِلَاهُمَا (4) مِنْ جَمَاعَتِهِمْ فِي السُّجُودِ، لِسُجُودِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَعَجِبُوا لِسُجُودِ الْمُشْرِكِينَ مَعَهُمْ عَلَى غَيْرِ إِيمَانٍ وَلَا يَقِينٍ -وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ سَمِعُوا الْآيَةَ الَّتِي (5) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ-فَاطْمَأَنَّتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا أَلْقَى الشيطانُ فِي أُمْنِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَرَأَهَا فِي السُّورَةِ، فَسَجَدُوا لِتَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. فَفَشَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي النَّاسِ، وَأَظْهَرَهَا الشَّيْطَانُ، حَتَّى بَلَغَتْ أَرْضَ الْحَبَشَةِ وَمَنْ بِهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابَهُ، وَتَحَدَّثُوا أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ قَدْ أَسْلَمُوا كُلُّهُمْ، وَصَلُّوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَهُمْ سُجُودُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَلَى التُّرَابِ عَلَى كَفِّهِ، وحُدِّثوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَمِنُوا بِمَكَّةَ فَأَقْبَلُوا سِرَاعًا وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ، وَأَحْكَمَ اللَّهُ آيَاتِهِ، وَحَفِظَهُ (6) مِنَ الْفِرْيَةِ، وَقَالَ [تَعَالَى] (7) : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ، فَلَمَّا بَيَّنَ اللَّهِ قَضَاءَهُ، وَبَرَّأَهُ مِنْ سَجْعِ الشَّيْطَانِ، انقَلَبَ الْمُشْرِكُونَ بِضَلَالِهِمْ (8) وَعَدَاوَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ، وَاشْتَدُّوا عَلَيْهِمْ. وَهَذَا أَيْضًا مُرْسَلٌ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، نَحْوَهُ (9) . وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ (10) أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" فَلَمْ يَجُزْ بِهِ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ، سَاقَهُ فِي مُغَازِيهِ بِنَحْوِهِ، قَالَ: وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ.
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَهَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا، وَكُلُّهَا مُرْسَلَاتٌ وَمُنْقَطِعَاتٌ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ سَاقَهَا الْبَغَوِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مَجْمُوعَةً مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيّ، وَغَيْرِهِمَا بِنَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ سَأَلَ هَاهُنَا سُؤَالًا كَيْفَ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا مَعَ الْعِصْمَةِ الْمَضْمُونَةِ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ حَكَى أَجْوِبَةً عَنِ النَّاسِ، مِنْ أَلْطَفِهَا: أَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْقَعَ فِي مَسَامِعِ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ، فَتَوَهَّمُوا أَنَّهُ صَدَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ كذلك في نفس الأمر، بل إنما
__________
(1) في أ: "ترجى".
(2) زيادة من ف، أ.
(3) في ت، أ: "ملء".
(4) في ت: "الفريقان منهما كلاهما".
(5) في أ: "الذي".
(6) في ت، أ: "وحفظه الله".
(7) زيادة من ف، أ.
(8) في ف: "بضلالتهم".
(9) تفسير الطبري (17/133) .
(10) في أ: "الحافظ".

الصفحة 443